8 شباط 2020
مشهد الثورة في نهاية فصلها الأول أثار أسئلة في صفوف جمهورها وقلقاً على مصيرها. بدت أقل زخماً وأقل قدرة على الحشد. مشهد يظهر وجهاً من الحقيقة ويخفي أخرى. صحيح أن حجم الاستجابة الجماهيرية قد تراجع، وعدد المشاركين في الساحات قد تضاءل، لكن ذلك حصل بعدما حققت الثورة إنجازات كبرى وبات عليها، عند بلوغها محطتها الأولى، أن تعيد تنظيم صفوفها وتستأنف مسارها. فما الذي أنجزته وما الذي ينتظرها؟
نشرت إحدى الوكالات صورة لأربعة شباب أطفأ الرصاص المطاطي عيناً لكل منهم، وبدوا بوجوه ضاحكة وتصميم على العودة إلى الساحات. صورة تزرع في النفس ثقة بجيل ترخص العين عنده إزاء استعادة الوطن، جيل هو الذي صنع الثورة وبعزمه سيعاد بناء الوطن، هو جيل الرؤيا الواضحة، وعينه على الوطن، فيما عيون أهل السلطة على النهب وإعداد الملفات المزوّرة والصفقات المشبوهة.
الثورة أرادتها سلمية لا بدافع حرصها فحسب على دم الثوار ولا سيما على عيونهم، بل رغبة منها أيضاً في أن يتحقق التغيير تحت سقف الدستور. كان هذا إنجازها الأول الملموس الذي تجسد بسقوط الحكومة بقوة الضغط الشعبي السلمي، وهو البند الأول من بنود البرنامج الموحد للثورة. لكن إنجازات أخرى لا تقل أهمية تحققت في المرحلة الأولى، من بينها زعزعة نظام المحاصصة ووضعه على حافة التفكك، وإحلال انقسام سياسي جديد بديلاً من الانقسام “التوافقي” بين فريقي الثامن والرابع عشر من آذار، تمثل بنزول الشعب موحداً تحت راية العلم اللبناني في مواجهة سلطة النهب والفساد. ومن بينها أيضاً أن الثورة تحولت إلى سلطة شعبية ورقابية وأطلقت قمقم الغضب الشعبي وحولت الساحات إلى منصات إعلامية أباحت فيها ما لم يكن مباحاً قوله، وتقدمت بلائحة اتهامية وضعت فيها المرتكبين خلف قضبان افتراضية من الخوف، وفرضت على أهل السلطة تعديلاً ولو شكلياً في اختيار أعضاء الحكومة الجديدة.
هذه الإنجازات البالغة الأهمية التي حققتها الثورة، وهي كلها غير مدرجة في بنود البرنامج الموحد، لم تكن “ملموسة” مثل الإنجاز المتمثل بإسقاط الحكومة. فلا الحكومة تشكلت من مستقلين، ولا ظهر في البيان الوزاري ما يطمئن إلى معالجة الأزمة النقدية والمالية، ولا إلى إجراء انتخابات مبكرة على أساس قانون انتخابات جديد، ولا إلى استعادة المال المنهوب، فضلاً عن أن قضية الانتخابات المبكرة والقانون الجديد وردت في آخر البيان كأنها سطر مستلحق أو مستدرك. بيد أن ما حصل وما لا يمكن إغفاله وهو أن الثورة فرضت على المرتكبين التخفي وراء الستارة.
الإنجاز التاريخي الذي جعلها تستحق أن تكون ثورة، لا مجرد انتفاضة أو حراك، تمثل في التحول الجذري في مضمون الصراع السياسي. كان صراعاً وانقساماً على التبعية والولاء، بين شرق وغرب، أميركا واتحاد سوفياتي، عبد الناصر وحلف بغداد. مع الحرب الأهلية دخلت ثنائيات جديدة، مثل سوريا وإسرائيل، سوريا والثورة الفلسطينية، سوريا والعراق، سوريا والسعودية وهو انقسام عبرت عنه معادلة سين سين الشهيرة، سوريا وإيران وهو انقسام تجسد في حرب إقليم التفاح بين هويتين للجنوب عربية أو فارسية. آخر تلك الانقسامات تمثل بصراع بين ساحتي رياض الصلح والشهداء، بين قوى الممانعة الموالية لنهج النظام السوري وقوى سيادية تعارضه. الثورة وحدها ألغت كل تلك الانقسامات، ونقلت الصراع إلى مستوى جديد، وشحنته بمضمون جديد. صار صراعاً بين الدولة والدويلات، بين الدولة الدستورية ومؤسساتها ودولة الميليشيات. لأول مرة في تاريخ هذا الوطن، لم ينقسم اللبنانيون على ولاءات خارجية. لأول مرة تجمعوا ملء الساحات والشوارع ولم يرفعوا راية غير العلم الوطني في مشهد من أبهى صور الوحدة الوطنية وأرقاها وأنقاها.
قامت الثورة بعملية “ضم وفرز”. ضمت في صفوفها العديد ممن كانوا منخرطين و”متورطين” في الانقسامات القديمة، الطبقية والقومية والأممية. واجتمع في ساحاتها يساريون ويمينيون، بالمعنى التقليدي للكلمة، تخلوا عن ولاءاتهم الخارجية، وأقسموا يمين الثورة ولاءً للوطن وحده. صحيح أن الكتلة الأساسية من الثوار، بل خميرتها هي جيل الشباب والشابات ممن تمردوا على تجارب أهاليهم الخاسرة، لكن الصحيح أيضاً أن عدداً كبيراً وفاعلاً منهم تخرّج من مدارس الأحزاب والولاءات القديمة ذاتها، وانتقل مزوّداً بقيم تعلمها في تلك المدارس، من بينها صدق الانتماء والتضحية من أجل “قضية” فئوية، ليوظفها هذه المرة في سبيل القضية الوطنية، قضية إعادة بناء الوطن والدولة.
هذا الواقع الجديد يملي على الثورة أن توسع صفوفها للقادمين من ولاءاتهم القديمة، أن تسهل لهم سبل الانتقال من القضايا الفئوية إلى القضية الوطنية، من أحزاب الطوائف إلى حزب الدولة، من أحزاب المحاصصة إلى حزب الثورة. لقد أنجزت الثورة الجزء الأول من عملية الضم والفرز بمهارة وبراعة، بتأمين أفضل الشروط لانخراط جمهور المحازبين في صفوفها، أما الجزء الثاني من هذه العملية فهو يحتاج إلى ما يكفي من المرونة لتمكين الثورة من التمييز بين قوى وقيادات أجازت لجمهورها الانخراط في صفوف الثورة وارتضت لنفسها الخضوع للمساءلة والمحاسبة، وأخرى وضعت جمهورها في حجر طائفي ودفعته ليواجه الجمهور الغاضب بالعنف والتخريب، ورمت الثورة والثوار بتهم العمالة وهددتهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.
هذه ليست الأصعب بين مهمات الفصل الثاني من الثورة. لأن جمهور المحازبين في القوات اللبنانية والاشتراكي والمستقبل والشيوعي منخرط في صفوف الثورة، برضى متعدد الأسباب والدوافع من جانب قياداته. الأصعب من بينها هو الالتزام بسلمية الثورة والتقدم في مسارها تحت سقف الدستور. ذلك يرتب على الثورة أن تستمر في المواجهة وممارسة الضغط الشعبي والحشد في الساحات، بهدف إسقاط حكومة الدمى، وإلا فلحجب الثقة الشعبية عنها وإبقائها حبيسة الجدران الإسمنتية والأسلاك الشائكة، وإرغامها على تبني برنامج الثورة ولا سيما ما يتعلق باستقلالية القضاء والانتخابات المبكرة واستعادة المال المنهوب.
مقالات ذات صلة
مقالة الوداع
تهافت خطاب “الشيعية السياسية”
قمة التطبيع