24 نوفمبر، 2024

استبداد واحد بين ارهابين

محمد علي مقلد                                                                    3-4-2015

العنوان تنويع على عبارة للوزير رشيد درباس يقول فيها إن صراعاً بين هلالين شيعي وسني هو الفضاء الذي سترتفع فيه نجمة داود.

صحيح أن اسرائيل سعيدة بما يجري من صراعات في المنطقة، وقد تكون مهتمة بحروبنا وبالتسميات التي نطلقها عليها والمضامين التي نشحنها بها والأدوات التي نستخدمها، وقد تكون مستعدة لإذكاء النار كلما شارفت على الانطفاء، وستكون في ذروة فرحها حين يطول أمد داحس العصر وغبرائها.

وصحيح أيضاً أن المتحاربين في الهلالين يتبارون في استجداء العداوة معها، فيما هي بعيدة عن مرمى نيرانهم، ويجعلونها شماعة يعلقون عليها كل طغيانهم وكل القهر الذي يمارسونه بحق شعوبهم، ويصنعون لها مبررات سياسية ودينية لوجودها.

وصحيح أيضا أن “ملاحمهم” ليست بطولات بل مجازر، والدماء التي خضبت صحراء الفرات تشبه تلك التي تخضبت بها جبال الجليل وعتبات فلسطين المقدسة … ولكن قد يكون لهذا الذي يعصف في مشرق العرب ومغربهم معنى آخر غير المعنى الموجود بين حروف الصراع مع المشروع الصهيوني.

العرب هم آخر سلسلة المتمسكين بنظام شمولي متعدد الألوان والأسماء. بوعزيزي أطلق الشرارة فامتدت النار في هشيم الجمهوريات الوراثية، من غير أن يدري أن صرخته الدموية تلك عبرت عن قهر ممتد منذ مئات السنين ، وعن رغبة في إزاحة كابوس الاستبداد الرابض على صدر الأمة، وعن تصميم على فتح باب التطور أمام عصر الديمقراطية  والحريات .

قبل بوعزيزي بوقت طويل كان اليسار يمني النفس في أن يكون هذه العصر هو “عصر الانتقال إلى الاشتراكية”، وراح يسعى وراء حلمه الجميل ذاك بنضالات شريفة مجبولة بتعب “العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين”، وبنضالات أخرى سخيفة امتطى فيها صهوة الانقلابات العسكرية والتحالف مع “أعداء الامبريالية والصهيونية والاستعمار” من الذين أذاقوه مر التحالف.

وقبله بوقت قصير ظن نظام الولي الفقيه أنه في “عصر الانتقال إلى دولة المهدي المنتظر” وراح يسعى وراء وهمه الاسطوري بما ملكت يداه من “مال نظيف” ودم حسيني، جامعا إلى النفط وتناقضات الصراع الدولي بعضا من أضغاث أحلام أمبراطورية تمتد من قمبيز وارتحششتا حتى باب المندب .

استحق عصر بوعزيزي أن يسمى “عصر الانتقال إلى الديمقراطية وتداول السلطة”، ولهذا حمل اسم الربيع ، لأنه أجمل الفصول . لكنه لا يشبه حلمين سبقاه  وناكفاه العداء من اللحظة الأولى. لا اليسار وقف معه ولا أتباع الولي الفقيه، ظنا منهم أنه ينافسهم على مستقبل هذه الأمة. لم يخطر في بال اليسار أن مشروعه، الذي قد يكون جميلا، يقفز فوق التاريخ ، أو أن الأجنحة التي كلفها عبء حمل التاريخ لا تقوى على حمله. ولم يقتنع الاسلام السياسي بفرعيه الشيعي والسني أن استلهام التاريخ شيء واستحضاره واستعادته شيء آخر. وهم لم يصدقوا ما قاله ماركس عن أن التاريخ لا يتكرر، وإن تكرر فالنسخة الثانية منه لن تكون إلا مسخرة الأولى. للأسف، استسهل الأمير الديني والداعية وحجة الله وخليفة الله أن يعيدوا قول الشاعر:” أنا نبي لا ينقصني إلا اللحية والعكاز والصحراء”. لم ينتبهوا إلى أن هذا العصر، ليس عصر الصحابة ولا عصر المهدي ولا عصر الاشتراكية، بل هو العصر الذي دفعت فيه البشرية ملايين الضحايا لتكتشف أن “الاختلاف حياة الزمان”.

بين الهلالين الشيعي والسني لن تظهر نجمة داود. يكفي الصهيونية أنها تتفرج على حروبنا. المشكلة كامنة في داخل الأمة وفي خياراتها المغلوطة. الأصوليات كلها واجهت الحضارة الجديدة وجافتها. الأصولية الاسلامية رأت فيها كفرا، والقومية رأت فيها استعمارا، واليسارية رأت فيها امبريالية ورأسمالية متوحشة. ولهذا كان من الطبيعي أن تتحالف هذه الأصوليات وأن يتجسد هذا التحالف في ما يسمى اليوم في جبهة الممانعة .

المشكلة المستحدثة تتعلق اليوم بمواقف أنظمة لم تحسب على أي من هذه الأصوليات، ولا على الجمهوريات الوراثية، أي على الأنظمة الملكية وشبه الملكية ولا سيما أنظمة الخليج التي ترددت في مواجهة الخطر القادم مع مشروع ولاية الفقيه إلى أن أصبح داهما ووضع الخليج كله على حدود النار.

على أهمية هذه “الوقفة في وجه المشروع الفارسي”، ربما كان على أنظمة الخليج وسائر أنظمة الوراثة أن تتعلم من التسوية الأولى في اليمن، فتتيقن أن منع الربيع من تحقيق أهدافه في الديمقراطية لا يشكل حلا للأزمة بل تأجيل وتمديد لها. وأن التردد في تقديم المساعدة له هو الذي افسح في المجال أمام تورط قوى خارجية ومشاريع، من بينها المشروع الفارسي أو المهدوي. وأن أية تسوية ما دون الديمقراطية سترتد على أصحابها مثلما حصل مع التسوية اليمنية. ولهذا قد تكون مطالبة، هي الأخرى، بالاستجابة إلى صرخة بوعزيزي الدموية، لعلها تتفادى آلام الولادة القيصرية للديمقراطية، وتتفادى، في الوقت ذاته، تسلل أحلام غريبة إلى ليل العرب الطويل.