26 أبريل، 2024

حراك “أبو رخوصة” وحيتان المال

14-11-2015

قد لا يكون مدخلا مناسباً أن نستهل نقاش قضية الحراك المدني بالإشادة بمن وضع نفسه في موقع الخصومة مع هذا الحراك، و”شمس نفسه” بعبارة “أبو رخوصة” التي استخدمها للتهجم على الحراك. كنت بين المشاركين في المظاهرات يوم أطلق هذه العبارة، لم أبدل رأيي فيه ولن أغير موقفي من الحراك. هو كفاءة عالية من كفاءات بلادي، والحراك هو السبيل الوحيد لإنقاذ الوطن من زمرة تتحكم بمصيره بعقل مستبد وأدوات ميليشيوية. مع ذلك لم أقصر في توجيه نقد لاذع له وللحراك، في أكثر من مقالة لي على هذا الموقع، في ظل سجال قاس بين أطراف المواجهة التي بدأت مع لجنة التنسيق النقابية في الأعوام الماضية، بل قبل ذلك مع سواها.

هذا النقد للبرجوازية اللبنانية ولليسار الذي يعتبر العمود الفقري للحراك المدني اليوم، كنت قد دشنته قبل عقدين في مقالات وفي حوارات مباشرة مع الشهيد رفيق الحريري ومع الحزب الشيوعي اللبناني. اتهمني صديق من حركة أمل يومذاك، بأنني أريد أن أجمع النقيضين في تحالف. الحريري شكا من استحالة الاصلاح الذي اقترحته عليه، بسبب ضغوط حكم الوصاية، والحزب الشيوعي لم يتوقف عن لحس مبرد الممانعة حتى صار يلدغ بكل حروف النضال، وظلت أولوية القوى السياسية الموالية والمعارضة معقودة لقضايا ومسائل لا توفر مفتاح الحل بالرغم من أهميتها الكبرى، كقضية التحرير والعلاقات المميزة مع سوريا وإعادة الاعمار وسواها.

أخطأت البرجوازية بقيادة الحريري، وأخطأت القوى اليسارية والنقابية والديمقراطية والمدنية، لأنها وضعت كل بيض القضايا الوطنية في سلة نظام الوصاية ووكلائه المحليين من الميليشيات وأشباهها، التي ركزت نشاطها على تخريب الدولة لا على إعادة بنائها، وعلى استتباع الوطن لكيانات أخرى أو على تجزئة الدولة إلى دويلات وتوزيع سيادتها على الزعامات المحلية، وضربت عرض الحائط بالدستور والقوانين والمؤسسات.

الحراك المدني الراهن هو التعبير الصحيح والصادق عن صحوة شعبية على أهمية الدولة وعلى ضرورة استعادتها، كمدخل لإعادة بناء الوطن. هذه هي نقطة قوته الكبرى، ولهذا ينبغي أن نحميه ونصونه ونطوره ونمضي به إلى مبتغاه. في المقابل هو يشكو من نقاط ضعف كثيرة، لكنها قابلة للمعالجة. أما البرجوازية التي اعتادت على التخلي عن دورها، لصالح الاقطاع السياسي في جمهورية الاستقلال، ولصالح الوصاية والميليشيات في جمهورية الطائف، فهي إما خائفة من أن تمسك بمقاليد السلطة بنفسها، أو متواطئة مع الميليشيات على المحاصصة ونهب المال العام.

هذا الواقع يجعل الحوار بين القوى الشعبية الممثلة اليوم بالحراك المدني والبرجوازية شبيهاً بحوار الطرشان. ولأنه كذلك فهو يعطي المبرر ليأخذ التعبير عن الاحتجاج شكل التهجم على “حيتان المال” والطغمة المالية، والرأسمال المتوحش، وعلى وسط المدينة و شركة “سوليدار”، فيتفاقم خوف البرجوازية من الحراك وشعاراته وتجعله ذريعة لتعزيز تحالفها مع أهل السلطة، ولا تتردد في تسمية أهل الحراك جماعة “أبو رخوصة”، فتبدو قاصرة عن فهم وجع المواطنين وشكواهم من سلطة مسؤولة عن أزمات الوطن، ولا هم لها سوى تقاسم الثروة الوطنية المادية والبشرية.

البارحة كنت أستمع إلى محاضرة ألقاها صاحب عبارة “أبو رخوصة”، عرض فيها، من جملة ما عرض، موقفه الإيجابي من مطالب الحراك المدني المحقة وكذلك من تلك التي رفعتها هيئة التنسيق النقابية، من غير أن يتخلى عن  تحفظات يتمسك بها منذ أعوام وجزم من خلالها باستحالة إقرار السلسلة ضمن الشروط المقترحة. لكنه، في سياق حديثه المتفائل بمستقبل لبنان المالي والاقتصادي، أكد على أن  أزمة لبنان قديمة، وأن المشكلة الاجتماعية والضائقة المعيشية التي يشكو منها اللبنانيون هي التي أدت، منذ قرن من الزمن وبالتحديد في العام 1911، إلى غرق مئات اللبنانيين في سفينة تايتانيك، مثلما تؤدي اليوم إلى غرق آخرين في بحار الهجرة.

في الفكرتين تظهر الأزمة ذاتها واضحة في طريقة تفكير البرجوازية اللبنانية. فهي تعمل بآلية تأسست في عهد الجمهورية الأولى، ثم تكرست في عهد الوصاية السورية، وقوامها حصر اهتماماتها بالشؤون المالية والاقتصادية، والتخلي عن إدارة شؤون الدولة لصالح قوى متحدرة من السلالات والعائلات و”البيوتات” أو من أحزاب الاستبداد القومي والديني، أي من أنساب معادية للحداثة ولا تحترم الدساتير وليس من أولوياتها بناء دولة القانون والمؤسسات ولا بناء الأوطان.

حكم الميليشيات ربما لا يشكل خطراً مباشراً على مصالح البرجوازية، لكنه هو الخطر بذاته على الدولة ومؤسساتها، فهو صار ماهراً في انتهاك الدستور، إما بتعليقه أو بالالتفاف عليه أو بإخضاع البلاد لما يشبه الأحكام العرفية من غير إعلان، وهو الذي يمتص دم الشعب ويصادر بأسلوب “التشبيح” أموال  البرجوازية  ويتحاصص المال العام.

حكم الميليشيات المافيوي هو الخطر على الجميع، على البرجوازية وعلى الحراك المدني وعلى كل الوطن.  

المصدر :

https://www.almodon.com/opinion/2015/11/14/%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D9%83-%D8%A3%D8%A8%D9%88-%D8%B1%D8%AE%D9%88%D8%B5%D8%A9-%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%84