24 أبريل، 2024

ثقافة الميليشيا

30-09-2016

 بعد الطائف قام جورج حاوي مع وفد من المكتب السياسي بزيارة سمير جعجع في مقره، للبحث في أفضل السبل للمصالحة الوطنية. كما أن هذا الأخير صرح، بعد خروجه من السجن، بأنه يريد لبنان “من القليعات حتى القليعة”، أي لبنان الواحد الموحد لا لبنان الكانتونات. غير أن المحازبين على الضفتين، الذين رأوا في المصالحة اعتدالاً، تمسكوا بمواقعهم الأولى، بلغة الحرب الأهلية وتحالفاتها، فلا غادرالقواتيون منصتهم “المسيحية” ولا غفر الشيوعيون الموقف “الانعزالي” من الثورة الفلسطينية، ولا اعترفوا بالرأسمالية كحضارة، ولا أمكنهم التمييز بين رأس المال و “حيتان المال”.  

   نستعير من مهدي عامل قوله أنه لا يمكن للمرء أن يقدّم إجابة صحيحة على سؤال مغلوط، لنؤكد أن  كثيرين وقعوا في شرك سؤال الوصاية المغلوط عن الخطر الذي يهدد الوطن، فارتكب بعضهم خطأ العداء العنصري للنظام السوري( البحر من أمامكم والعدو من ورائكم)، فيما ارتكب آخرون الخطأ بالمقلوب، ولاء وتبعية عمياء وانصياعاً. الجواب الخاطئ أعاد المتزمتين، كلاً إلى موقعه الأكثر تشدداً، ورمى حرماً على أية قراءة نقدية لتجربة الحرب الأهلية.

الحزبيون بشر، منهم الكريم والبخيل، الغني والفقير، الجاهل والمثقف، الشجاع والجبان، العاقل والمتهور، إلى آخر الأوصاف والمزايا الموزعة بين البشر بمقادير متفاوتة. لكن الأوصاف الاخلاقية الاجتماعية لا تصلح معياراً وحيداً للتصنيف والفرز. الانسان لا يمكن أن يكون ذا بعد واحد، وقد يكون البعد السياسي فيه هو الأقل دلالة وتعبيراً عن جوهر شخصيته. أقول ذلك لأنني لا أنسى أن الذي أنقذني من قرار القوات اللبنانية  باغتيالي هو مقاتل في القوات اللبنانية، بينما حاول شقيقه، القواتي هو الآخر، السطو على منزلي في غيابي. ومن حمى بيتي من السرقة هما مقاتلان من حركة أمل، لتقوم بنهب محتوياته في ما بعد مجموعة مختلطة من رفاقي في الحزب الشيوعي اللبناني وحلفائه.

في ظل ضغوط الوصاية وويلات الحرب، أيقنت أننا كنا، يميناً ويساراً، وقودا للحرب ومجرد أدوات تنفيذية. لم يغرر باللبنانيين أحد، أو ربما انزلقوا، لكنهم هم من جاؤوا بالدب إلى زرعهم. قرروا وهم “في كامل قواهم العقلية والجسدية”. إذن كان لا بد من نقد التجربة. ومن الطبيعي أن تكون رحلة الناقد، أي ناقد، مجازفة وأن يرمى، من أهل بيته الحزبي أولاً ومن كل المتشددين والدهماء في كل حزب، بكل التهم المتيسرة، كالعمالة والخيانة والارتداد، وخصوصاً من قبل من لا يقبلون بالنقد من حيث المبدأ، ولا يقرأونه بل يتداولونه عن طريق الإشاعة، وإن قرأوه عاملوه بأحكامهم المسبقة.

جميع القوى جربت حظوظ مشاريعها، من تحرير فلسطين حتى  بناء الاشتراكية مروراً بالوحدة العربية والوطن القومي المسيحي والاسلام هو الحل. إذن كان لا بد من البحث عن بديل ينقذ الوطن ويقنع المتحاربين بأنهم ملزمون بالعيش معاً وبتنظيم اختلافاتهم بدل تفجيرها، وملزمون، بالتالي، بإقامة نظام يتسع للاختلاف ويوطد الوحدة الوطنية ويعيد بناء الدولة والوطن. إذن، الدولة هي الحل. للأسف، الميليشيويون شنوا حرباً على فكرة الدولة، وأدانوا من يروج لها ورموه بكل التهم، لأن نظام الوصاية أقنعهم بأن الأولوية تقع في مكان آخر.   

خرجنا من الحرب عندما بدأت تخرج إلى النور وسائل التواصل الاجتماعي، وهي من إنجازات العلم الكبرى التي وفرت للقادرين على حيازة أجهزتها الذكية امكانات الاطلاع على أوسع نطاق، إلى جانب ما كانت تقدمه مئات الشاشات ومئات الإذاعات، فحلت الإشاعة بدل البحث وصار التنجيم بدل التحليل، واستبدل الكتاب والمقالة بثقافة القال والقيل والحديث المعنعن، وبات القادر على شراء جهاز إلكتروني يتخيل نفسه منتقلاً من شلل الشبيحة إلى روابط أهل القلم، واختلط حابل الكلام الرصين بنابل الشتائم ولغة الأزقة. وتعمم نموذج الذي حاول اغتيال نجيب محفوظ مكفراً إياه في رواية أولاد حارتنا، معترفاً أمام القاضي أنه لم  يقرأها، وربما كان لا يجيد القراءة والكتابة. والله أعلم. ربما تكرر الأمر نفسه البارحة في الأردن مع قاتل ناهض حتر، قاتل الرأي الآخر.

بعض النقد يتعلمه المرء من تجربته. لكن أقلام القال والقيل لا يرون فيه غير الندم. أشهد أنني فخور بكل مواقفي و قراراتي ولا أندم على شيء فعلته في حياتي، فالندم يختص به الجبناء من ضعاف النفوس. لكنني أعترف أن لوائح الصداقات والعداوات التي كانت صالحة للحرب لم تعد صالحة للسلام. وأشهد أن انتمائي إلى اليسار الشيوعي كان لحظة جميلة في حياتي، وأن اليسار لا يزال حاجة للوطن، وأن ماركس ما زال أكثر راهنية من معظم فلاسفة الثورة المعاصرين، وأشهد أن الأغلبية الساحقة من الماركسيين لا يعرفون من ماركس غير ما وصل إلى أسماعهم من قادة أحزابهم وعن طريق الإشاعات .لكن الثورة لم تعد في نظري سوى التغيير والتقدم، ولم يعد معناها السياسي غير الذي تنطوي عليه مفاهيم الثورة العلمية والثورة الاقتصادية والثورة الثقافية، أي التغيير نحو الأفضل من غير دماء، وإن سالت في الثورة دماء فلا يجوز أن يكون اليسار سبباً في إراقتها.

وأشهد أنني فخور بصداقاتي كلها التي جمعتني بإخوة ورفاق تقاسمت وإياهم الحزن والفرح والخبز، لكن نتائج الحرب أقنعتني بأن خيار الحرب كريه. ألم يقل زهير الشاعر الجاهلي، وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم… وأرشدتني إلى معايير جديدة للعداوة والصداقة. عدوي هو عدو الوطن. أما اللبنانيون، من أتفق معه منهم ومن أختلف، فهم أهل بلدي وعلي واجب الدفاع عنه وعنهم ضد أي تدخل أجنبي. لقد أخطأنا نحن اللبنانيين بحق بعضنا وبحق الوطن، باستدراج الخارج وتوهم القدرة، بالشطارة اللبنانية، على استخدامه وتوظيفه ضد الخصم الداخلي.  القوات اللبنانية ليست وحدها من تستحق الإدانة على تعاملها مع إسرائيل، بل تستحقها أيضا، بالسوية ذاتها، مواقفنا اليسارية التي استقوت بالسلاح الفلسطيني وتوسلت العنف لتعديل النظام السياسي، وتضامنت مع سفاحين في العالم العربي استبدوا بشعوبهم ووضعوها بين خياري الحكم الأبدي أو الحروب الأهلية، ومواقف السنية السياسية والشيعية السياسية  والجبهة اللبنانية على الاستنجاد بالعمق العربي والنظامين السوري والإيراني. حزب الله ليس وحده من يستحق الإدانة على تدخله في سوريا ومناصرته نيرون سوريا، بل بالسوية ذاتها تدان رحلة الشيوعيين إلى ليبيا للمشاركة في حرب تشاد ولمناصرة مستبدها المجنون.

أحداث صغيرة وكبيرة غيرت مجرى حياتي وأفكاري. اغتيال حسن حمدان أولها. بمناسبة موته كتبت أول تلميح نقدي للحرب، وأتاني العتب من قيادة الحزب، لكنه عتب مهذب ولطيف يشبه أخلاق القيادة في حينه، ولا يشبه موقفها. ثانيها موت ياسر عرفات. باح لي صديق من “مناضلي” البعث بعتب شديد على إسرائيل لأنها أطالت حصاره وأبقته حياً وهي كانت قادرة على قتله، ولم أكن أنتظر وسيلة إيضاح أكثر بلاغة لفضح أهداف النظام السوري في لبنان. بالأولوية أبو عمار كان عدوه الثاني ، بعد موت عدوه الأول، عبد الناصر. فكيف لي أن أصدق ما كنت أسمعه عن الوحدة والحرية والاشتراكية، وكيف لي أن أنسى تصفيقنا وتهليلنا للنظام السوري لإقفاله طريق المصنع عقاباً للدولة اللبنانية على تمسكها بالسيادة الوطنية. لم نكن أوفياء لوطنيتنا ولا كانت القضية القومية في أيدٍ أمينة. أبو عمار الذي خربنا البلد من أجله أمعن في تقتيلنا في طرابلس بصفتنا عملاء للنظام السوري. حلفاء الخندق الواحد في مواجهة إسرائيل استكملوا مقتلة القيادات الحزبية بالعشرات في غمرة نضال الشيوعيين ضد الاحتلال.

عشرون عاماً دام مشواري النقدي من داخل الأطر، إلى أن ضاقت الأطر على النقد وضاقت القيادة على النقاد. أما أنا فمازلت على يقين بفشل كل الانشقاقات في كل التجارب التاريخية، في الأديان كما في الأحزاب، من الأشعرية والمعتزلة والسنة والشيعة، إلى الكاثوليكية والبروتستانتية، واللينينية والماوية والتروتسكية، والبعثين والحركات التصحيحية والحركات القومية، إلى حركة اليسار الديمقراطي والانشقاق عنها؛ وعلى يقين بأن أي تناقض لا يحل إلا من داخل الوحدة. وبنيت على هذه الفرضية موقفي من وحدة الحزب ومن وحدة كل حزب، ومن الوحدة الوطنية، واقترحت برنامجاً للانقاذ الحزبي والوطني، لكن العقل الميليشيوي الذي سيطر على الحزب بعد الطائف تحمل النقد عقدين من الزمن إلى أن قرر استبعادي وافترى علي بتهمة الانشقاق. ذوو العقل الميليشيوي في الحزب وحدهم صدقوا التلفيق القيادي وروجوا له، وبعض الذين صوتوا عليه أنكروا فعلتهم وأسقطوه من ثقوب ذاكرتهم.

سيطرة العقل الميليشيوي تعممت. لم يكن الحزب الشيوعي وحده الضحية. في جميع الأحزاب تصدرت الواجهة قياداتها الأمنية وحديثو نعمة ممن أثروا بعد فاقة. موقع القرار السياسي والإداري في مؤسسات الدولة صار بين أيدي من تحاصصوا خلال الحرب الشوارع والمناطق والأتاوات. في الجامعة اللبنانية، مفخرة الوطن، كتب أحد الطلاب في مقدمة اطروحته أن أستاذه الحقيقي هو أحد مشايخ الطرق الصوفية، منكرا على أستاذه المشرف أي دور. حتى الصحافة لم تسلم من غزوة العقل الميليشيوي، بعض الصحافيين انحازوا إلى التنجيم وانتهكوا آداب المهنة والكتابة. العقل الميليشيوي، السلوك الميليشيوي، الأخلاق الميليشيوية، الثقافة الميليشيوية، الإدارة الميليشيوية، الاعلام الميليشيوي، برلمان الميليشيات، مرشحوها لرئاسة الجمهورية، هذه كلها من علامات الظهور، ظهور الحرب الأهلية ، حرب الجميع على الجميع، الحرب على الوطن.

قادة الميليشيات لا يكترثون لما يقال، لا يعيرون انتباهاً للرأي العام، للرأي الآخر. يوجهون “صبيانهم” الجهلة إلى وسائل التواصل، وصبيانهم الكتبة إلى الصحافة، ويزودونهم بسلاح وحيد، خارج جبهات القتال، يطلقون منه الشتائم كما الرصاص في المآتم والأعراس، لكنه ليس سلاحاً عشوائياً، بل مصوب بدقة ضد من ينتقد نظام الممانعة وتدخل حزب الله في سوريا ومن يدعو إلى قيام الدولة.

مع ذلك، لن نكتفي بمئات المقالات التي نشرناها في جريدة المدن وسواها عن أهمية الدولة والوحدة الوطنية، وسنظل ندعو إلى قيام دولة الكفاءة بديلاً عن دولة التشبيح، مرددين مع محمد الماغوط، “سأتكئ في عرض الشارع كشيوخ البدو … ولن أبرح ، حتى تجمع كل قضبان السجون وإضبارات المشبوهين في العالم لألوكها كالجمل على قارعة الطريق …. حتى تجمع كل هراوات  الشرطة وتعود مرة أخرى أغصاناً مزهرة على أشجارها”

كلما انزعج ميليشيوي من النقد أنام ملء جفوني، وكلما عبر عن انزعاجه بلغته الزقاقية يحضرني قول المتنبي عن مذمة الناقص، بيت الشعر الذي يعرفه، حتى هم ،جهلة الميليشيات، ويروونه مكسور الوزن، لأنهم لم يسبق لهم أن قرأوه بل تنامى إلى أسماعهم بالتواتر.

أنام ملء جفوني، لكنني أزداد خوفاً على وطني. مع ذلك، ها نحن “صامدون هنا قرب هذا الدمار العظيم”( بالإذن من مارسيل خليفة وحسن عبدالله) …سنستمر في الدعوة إلى مواجهة الفاسدين والمفسدين في السلطة والأحزاب ومؤسسسات الدولة والصحافة والجامعة… وإلى التجمع دوماً في ساحة سمير قصير، في ساحة الشهداء، ساحة الحرية، وفي كل الساحات، إلى أن تنزاح عن صدر هذا الوطن صخور المافيات الميليشيوية.

المصدر:

https://www.almodon.com/opinion/2016/9/30/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%B4%D9%8A%D8%A7