19 أبريل، 2024

خطبة السياسي نصفٌ ونصفٌ فؤاده

03-03-2016

مهرجان صور السنوي إحياء لذكرى موسى الصدر ليس الوحيد الذي يذكرني بالشطر الشعري، لسان الفتى نصف ونصف فؤاده، المهرجانات واحدة وإن تعدد الخطباء. في المقابل، كلما استمعت إلى تصريح أو كلمة متلفزة للرئيس الأميركي أو الفرنسي أو أي مسؤول في الدول الكبرى يأتيني التذكير معكوساً. لماذا نطنب في الكلام فيما يقتصد سوانا؟ ألأنهم أكثر إتقاناً لفنون البلاغة والفصاحة؟ لا. بل لأنهم أكثر احتراماً لمبدأ خير الكلام ما قل ودل.

لسنا وحدنا من ننتظر القائد ليقول كلمة، ولا خطبة مهرجان صور هي الوحيدة. في ما مضى كنا ننتظر عبد الناصر على الإذاعات قبل أن تكون الشاشات، ونتباهى بطول خطاباته ، ونقارنها بوقفات فيديل كاسترو المطوّلة. ست ساعات وتسع ساعات. ياسر عرفات كان يوزع خطابه الطويل على خطابات عديدة في اليوم. قادة الأحزاب، بعضهم كان يتدرب على الخطابة، لأن الاحتكاك المباشر بين القائد وجمهوره هو باب عاطفي للاقناع. والأكثر إقناعا من الخطب هو المرتجل منها، فيما كان آخرون ينتظرون من يعد لهم النصوص لأن الله لم يمن عليهم بملكة الارتجال. في المدارس الدينية فصل من فصول الدراسة يتعلم فيه الطالب أصول الخطابة، الوقفة ومخارج الحروف والنبرة وقواعد اللغة، فيما آخرون ممن يغدقون على أنفسهم ألقاباً دينية بلا حسيب ولا رقيب ولا لجان فاحصة،  إذا ما اعتلى واحدهم المنبر يرجو طول الإقامة عليه ويبقي السامعين في إقامة جبرية أمام سبابته وصراخه.

في لبنان انحدرت الخطابة السياسية بانحدار السياسة. في المجلس النيابي كان خاتشيك بابكيان الأرمني الأصل يتقن العربية، مثلما هي الحال مع إعلاميين مرموقين معاصرين امتلكوا اللسان العربي بأفضل من المتحدرين من أصل عربي، وكان إدمون رزق الماروني يعتلي منابر الحسينيات ويشارك في مجالس العزاء. صار خلوّ المجلس اليوم من أهل البلاغة والفصاحة أقل فظاعة من خلوّه من المشرعين، باستثناءات ملامح أدبية تظهر في خطابات الرئيس بري المكتوبة والمعدة بعناية، أو ملامح حرص على قواعد اللغة في تصريحات الرئيس السنيورة، وخصوصاً في تصريحات النائب محمد رعد وخطاباته، لكونه خريج اختصاص في اللغة العربية.

لم يقتصر الانحدار على الفصاحة والبلاغة. بعض المذيعين يراوغون قواعد اللغة ويموهون الاختلال بتسكين أواخر الكلمات، غير أن العدد الأكبر من السياسيين يدّعون معرفة باللغة مثلما يدعون تمثيل الشعب، فيقترفون بحق سيبويه ونفطويه وأبي الأسود الدؤلي من الفظائع ما لم يشهد له تاريخ الجرائم اللغوية مثيلاً. غير أن الجرائم بحق لغة القرآن ترتكب على أيدي معممين انتقلوا من الصفوف الابتدائية في المدارس إلى حوزات يتعلمون فيها، إضافة إلى طقوس الوضوء ودفن الموتى، لغة الشحن المذهبي وتصدر الحضور في الانشطة العامة.

لسان السياسي نصف. يتقن السياسي فن التلاعب بعواطف الجمهور ووعيه. تواطؤ ضمني بين المرسل والمتلقي، يتقن الخطيب دغدغة المشاعر ولا يسمع السامعون غير الذي يتوقعونه. لا يختلف جمهور الخمسينات والستينات عن الجمهور المعاصر، لكن خطباء الأمس كانوا أكثر مصداقية. كنا بالملايين نستمع إلى عبد الناصر يوم أعلن قراره بتأميم قناة السويس فاستحق لقب الزعيم والقائد، ثم استحقه أكثر حين لم يتردد في إعلان هزيمته وتقديم استقالته. تجرأ واعترف وانتقد لكن الجمهور هو الذي منعه من استكمال الاستقالة. التواطؤ الضمني ذاته بين القائد وجمهوره. الملايين ذاتها التي خرجت لتلغي تنحيه خرجت لتهتف باسم خليفته السائر في طريق معاكس.

في لبنان يحصون الأعداد بعشرات الآلاف أو مئاتها. يشاهدون الخطيب على المنصة أو على الشاشة العملاقة، يصطفون أمامه أو أمام صورته. كانوا يستمعون إلى ما يتوقعونه أو إلى ما تطرب له آذانهم. حتى بعد أن صار المشهد مملاً والكلام مكرراً كما في مهرجانات الصدر أو احتفالات النصر الإلهي، ظل الجمهور يلحس مبرد المبالغات ويقرأ المناورات التعبوية بعين مغمضة ووعي زائغ، ويصفق ابتهاجاً بمحطات الكلام الاستفزازية أو عند تلاوة أسماء الشهداء والأحداث الكبرى.

أسوأ أنواع التواطؤ ذاك الذي يحصل كل عام تكريماً للإمام المغيب. القائد والجمهور والضيوف كلهم يعرفون أن الحقيقة هي غير الكلام عنها، وأن المسافة بينهما هو ما يحتاجه شد العصب الحزبي، وهذه حال كل العصبيات الحزبية التي تزعم تكريم الشهداء، فيما هي تتسلق على دمائهم لتكرس الخطأ لا لتعود عنه، لتكرر التجربة لا لتتعلم منها.

هذا ما تفعله حركة أمل في يوم الإمام الصدر، وحزب الله في تكريم شهدائه، والقوات اللبنانية في يوم شهداء المقاومة اللبنانية، وسائر الأحزاب والقوى القادرة على تجميع المستمعين إلى خطب الجهاد والمراثي الدينية. ناهيك عن خطباء التيار الوطني الحر والناطقين باسمه الذين يتحدثون عن الدولة بمصطلحات ميليشيوية وعن العلمانية بمفردات مسيحية وعن الديمقراطية بلغة النظام المرصوص، فتضيق مسامعهم على السخرية منهم ومن منطقهم الأعوج وممن يمثلون.

قبل أن يبلغ التكريم أرواح الشهداء يأتي من يوظفه في شحن النفوس وشحذ الهمم استعداداً لتقديم قرابين جديدة على مذبح القضايا التي لا تني تزداد قداسة حتى مع هزائم ترفع فيها شارات النصر.

المصدر:

https://www.almodon.com/opinion/2016/9/3/%D8%AE%D8%B7%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%86%D8%B5%D9%81-%D9%88%D9%86%D8%B5%D9%81-%D9%81%D8%A4%D8%A7%D8%AF%D9%87