23 نوفمبر، 2024

انقلاب أم ثورة على الاستبداد القومي؟

    نحن الذين تربينا على أمجاد العروبة  وفي ظلال الناصرية ، انتبهنا متأخرين إلى أن تلك الأمجاد كانت خليطا من حقيقة وأوهام ، وإلى أن العروبة ، بمكوناتها الدينية والماركسية والقومية ، كانت خليطا من الاندفاع الشوفيني والتحرر الوطني. لكن أخطر ما اكتشفناه ، متأخرين أيضا، هو أن النهوض الوطني والقومي استند ،في أحد أركانه، إلى الاستبداد.

قيل الكثير عن أصول الاستبداد ، بحوثا وقصائد وأدبا روائيا ومسرحيات . حتى أن الشاعر محمد الماغوط رأى أنه، قطعا ، ” لم يكن مربوطا إلى رحم أمه بحبل صرة بل بحبل مشنقة” . ليلتقي مع باحثين ربطوا ظاهرة الاستبداد ب”العقل العربي ” و بالتقاليد الاستبدادية الموروثة من اغتيال الخلفاء الراشدين مرورا باغتيال الأئمة الشيعة وكثير من خلفاء بني العباس ومعظم ولاة المشرق العربي في مرحلة الغزو الصليبي، على ما يروي كتاب أمين معلوف عن “الحروب الصليبية كما رآها العرب” ، الخ .

قد يكون الاستبداد القديم ، أي السابق على الحضارة الرأسمالية ، من طبائع الأنظمة الاجتماعية السياسية لتلك الأيام ، وقد يكون كتاب الكواكبي عن ” طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” هو المفصل التاريخي بين مرحلتين وحضارتين . قبله ، من الناحية النظرية ،كانت مرحلة الأنظمة الوراثية ، وبعده أنظمة حكم الشعب . غير أن ما صح على سوانا من الأمم لم ينطبق على الأمة العربية ، ومات الكواكبي مسموما ، وكان لموته الرمزي هذا صدى ظل يتردد لأكثر من قرن ونصف ، أسكتت فيها أصوات حرة مثل الكواكبي ، بالقتل أو النفي أو السجن.

المسوغ النظري للاستبداد القومي يكمن في نظرية العدو الخارجي( المؤامرة)، وتطبيقه العملي تجلى في الاستنفار الدائم وفي خوض المعارك  ضد عدو وهمي أو حقيقي ، وقد رسخ الاستعمار هذا المسوغ وتطبيقه العملي بإنشائه دولة صهيونية استخدم الحاكم الصراع معها ستارا ومبررا لممارسة كل أنواع الاستبداد الداخلي و لمحاربة خصومه ممن يسميهم “عملاء الاستعمار وأعوانه ” في الداخل .

في بحثها عن أسباب تخلف البلدان العربية ، أجمعت الأصوليات على تحميل المسؤولية  للرأسمالية والاستعمار والصهيونية ، حتى باتت هذه الكلمات الثلاث بمثابة ” اللازمة” في مطلع كل خطاب تخويني ، وخارطة طريق لاعتقال أهل الرأي المختلف من المعارضة السياسية والفكرية والدينية . صار العدو الخارجي شماعة تعلق عليها كل مفاسد الحاكم ، من نهب المال العام إلى انتهاك الدستور ، في حال وجوده ، إلى سوء استخدام السلطة والنفوذ ، وأرسيت تقاليد ثقافية وفكرية  وسياسية شوهت المعاني وحرفت القيم.

برامج الأصوليات الدينية تكاد أن تكون واحدة في كل البلدان وواحدة على اختلاف المراحل . من الوهابية والسنوسية والمهدية وسواها حتى الحركات الإسلامية المعاصرة : الإسلام هو الحل . وصياغته البرنامجية واحدة ، هي في العودة إلى الأصول ، أي إلى ما قبل مرحلة العقل الإسلامي ، بحسب تعبير محمد عابد الجابري، وبالتوحيد ورفض البدع والضلالات التي علقت بالدين بسبب الجهل. مع ذلك حورب برنامج الشيخ محمد عبده القائل إن باب النهضة هو المدرسة، ومع ذلك أيضا أفتى علماء الشام بتحريم المطبعة ، على ما ورد في “كاتب السلطان” لخالد زيادة . المدرسة والمطبعة من نتاج غرب قيل فيه إنه المادي المسيحي الملحد الاستعماري، إذن من نتاج العدو الخارجي.

وبرامج الماركسيين واحدة: الاشتراكية هي الحل ، وترجمتها بإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج وفك التبعية عن الاستعمار أو الاستقلال الاقتصادي ، أي بمحاربة الرأسمالية بصفتها عدوا خارجيا يتطلب ابتكار أحدث الصيغ للانكماش على الذات .

وبرامج القوميين واحدة : وحدة حرية اشتراكية ، ثالوث مبرراته للبناء واهية أمام مبرراته لمحاربة الخارج . وباسمه انتهكت الحريات وقامت الانقلابات وتم القضاء على بذور الديمقراطية الفتية في مصر وسوريا والعراق . كل ذلك باسم محاربة الاستعمار وأعوانه من الرجعية المحلية . فوق ذلك، لم تقف “المآثر” عند حد الاستخدام المسيئ لتلك الشعارات ، بل تعدته إلى الإمعان في تفتيت الوحدة القومية ووحدة الأوطان كل على حدة ، فانتقلت بلداننا من العالم الثالث إلى الرابع أو الخامس ، ولم يبق على الكرة الأرضية أنظمة وراثية غير الأنظمة العربية.

مع هذه الانتفاضات العربية من المحيط إلى الخليج تتأكد فكرة المؤامرة ورسوخها في عقل الحاكم ،  إذ ما من حركة اعتراضية قامت إلا وكانت ، في نظره، من فعل فاعل خارجي، وفي رسوخ نهج الحروب والمواجهات ، إذ إن أحب أساليب المعالجة على قلبه هو العنف ، حتى لو أدى ذلك إلى حروب أهلية أو إلى تفتيت الوحدة الوطنية أو إلى مجازر جماعية .

هنالك ظاهرة أخرى بينتها تلك الانتفاضات هي انهيار البنى الحزبية القديمة ، إما بغيابها الكامل عن الساحة ، أو بوقوفها في الصفوف الخلفية والتحاقها المتأخر بركب الحركات الاعتراضية أما الأحزاب المستعصية على النقد فما زالت موجودة من حيث الشكل لكنها في طريقها إلى الانهيار  بعد انتقال المبادرة إلى قوى جديدة من الفيسبوك واليسار الإلكتروني ، وارتباكها حين تطرح قضية العلاقة بالخارج ، ولا سيما حين يكون هذا الخارج “استعماريا ورأسماليا أو من صفوف الشيطان الأكبر” ، كما هي الحال في ليبيا ، حيث لم يكن سهلا على الأحزاب ” الثورية والتقدمية ” بنسختها القديمة ، الوقوف  في الوقت ذاته مع الثورة الليبية ومع المساعدات الدولية للثورة .

ظاهرة ثالثة بالغة الأهمية في تلك الانتفاضات تمثلت في كونها قدمت الدليل القاطع على أن أسباب تخلفنا كامنة في الداخل ، وأن الخارج قد يكون محفزا على التقدم أوقد يكون معيقا ، وذلك بحسب طبيعة القوى الداخلية وطبيعة برامجها، وعلى أن أحد أهم أسباب هذا التخلف هو الاستبداد الذي كان يمارس على شعوبنا العربية بألف شكل وشكل ؛ بالالتفاف على الدساتير في حال وجودها، أو في إلغائها وفرض قوانين الطوارئ ، باسم مواجهة العدو الخارجي ، ( قانون الطوارئ عمره عشرات السنين في مصر وسوريا)؛ وبإلغاء حق الانتخاب ، حيثما تنص الدساتير على هذا الحق ، ذلك أنه حتى في البلدان التي تحصل فيها الانتخابات في العالم العربي كان يتم اختيار الحاكم بالوارثة أو بالتعيين أو بضمان الفوز المسبق؛ و بحكم الحزب الواحد وإلغاء كل صيغ الاختلاف والتنوع والتعدد ، أو بتحويل هذين التنوع والتعدد إلى عوامل تفتيت وطني وأدوات حروب أهلية؛ وبكم الأفواه وتقييد حرية الإعلام  والرأي والمعتقد ، الخ ، الخ. ولذلك كله اقتصرت برامج الثورات كلها على شعار واحد : الشعب يريد تغيير النظام ، وكان المقصود في ذلك القضاء على الاستبداد.

على أن أهم انجازات هذه الانتفاضات العربية هو تحرير مصطلح الثورة واسترداده ممن احتكروه وصادروه واستولوا عليه وشوهوا مضمونه . لقد عممت الحركة القومية العربية والحركات القومية المشابهة ( في إيران مثلا) معنى الثورة على أي انقلاب يقوم به عسكريون أو معممون ، ويكتفون من خلاله بتغيير السلطة الحاكمة من دون تغيير النظام ، غير أن ما يحصل اليوم في بعض أجزاء العالم العربي هو الثورة ، بل هو الثورة الوحيدة وما تبقى ليس سوى انقلابات .