10 كانون الثاني 2022
جورج حاوي كان يتحدث بلغة الأمثال. خلال أعمال التحضير للمؤتمر السادس، استعان بالشاعر امرئ القيس في قوله، كجلمود صخر حطه السيل من علِ، ليشبه به انهيار الحركة الشيوعية الذي، بحسب تقديره، لن يتوقف في وسط المنحدر، ولن يوقفه شيء قبل بلوغه القاع.
وثائق الحزب الشيوعي اللبناني التحضيرية للمؤتمر الثاني عشر هي القاع. كأنها تستبطن دعوة الجيل الجديد من اليساريين لكي يبادروا، متحررين من سطوة قيادتهم ومن سطوة الأممية، بحسب تعبير جورج حاوي أيضاً، إلى مغادرة السفينة الأممية وبناء سفينتهم اليسارية والإبحار نحو تأسيس يسار جديد، لا شك في أن وطنهم في أمس الحاجة إليه.
للحزب تاريخ وتراث وأمجاد. بدأ مع الرواد في عشرينات القرن الماضي، أي مع الولادة السوفياتية، وانتهى بانتهائها، أي بالتزامن مع المؤتمر التاسع. كل ما بعد ذلك هو مما بعد تاريخه بل انقلاب على تاريخه. أضحيته الأولى، أمينه العام فرج الله الحلو، سفحتها الحركة القومية العربية على مذبح أنظمة المخابرات. تعلم الحزب الدرس بالمقلوب وراح يبحث عن مقعد له بين صفوف قاتليه.
في مؤتمريه الثاني والثالث، استنهضته «قيادته التاريخية» ووضعته في قلب «حركة التحرر الوطني العربية» مناضلاً ضد الإمبريالية الأميركية، خائضاً غمار الحروب والحروب الأهلية ضد الاستعمار ودفاعاً عن وحدة لبنان وعروبته وتطوره الديمقراطي، ليفاجأ مرة أخرى بالمجازر تترى على أيدي سفاحي حركة التحرر الوطني فيستشهد له على أيدي حلفائه مقاومون ومفكرون وقادة رأي.
في مؤتمره التاسع وضع المصلحة الوطنية اللبنانية فوق كل اعتبار فكان عقابه اغتيال أمين عام هو درة تاج الأمناء العامين، قتله من قاتل معهم ودافع عنهم، رفاقه في النضال ضد الإمبريالية والصهيونية والاستعمار. هذه الخسارة هي الأثقل ولا سيما أن حزباً بناه على صورته ومثاله مقداماً وشجاعاً ومبادراً وطليعياً ومنفتحاً، لم يتعلم لا منه ولا من أصدقائه ولا من حلفائه ولا من القتلة بأية طقوس احتفالية كان ينبغي تكريمه بعد اغتياله.
المؤتمر التاسع انعقد في غمرة الانهيارات الكبرى، الاتحاد السوفياتي والتجربة الاشتراكية المحققة، حركة التحرر الوطني العربية بعد مشاركتها في الهجوم الأميركي على العراق ومشاركتها في مؤتمر مدريد، الحركة الوطنية اللبنانية بعد أن سلمت قرارها الحر للوصاية السورية.
أبرز البداهات المستفادة من الاغتيالات ومن الانهيارات اثنتان، من أجل ماذا يناضل الحزب وضد من؟ حقيقتان سوفياتيتان سقطتا بسقوطه. الأولى، بعد أن كان هذا العصر، باللغة السوفياتية، عصر الانتقال إلى الاشتراكية، صار عصر انهيار تجربتها المحققة، لا بل عصر التوسع الأفقي للرأسمالية بحسب ترسيمة مهدي عامل. والثانية، أن الاستعمار الذي قاتلناه انطلاقاً من لبنان على امتداد القرن لم يكن موجوداً، (https://www.nidaalwatan.com/article/64643 مقالتي في نداء الوطن في 27-12-2021 بعنوان خطأ شائع).
الوثائق التحضيرية للمؤتمر الثاني عشر عودة إلى نقطة البداية. كأن الحزب لم يخض تجربة الحرب الأهلية ولا تجربة الصداقات الدموية مع حلفاء ألداء وكأن السقوط المدوي لتجربة الاشتراكية المحققة لم يبلغ أسماعهم.
العمود الفقري في الوثائق البرنامجية ما زال هو هو، النضال من أجل بناء الاشتراكية، وكأنها مهمة موضوعة على جدول عمل التاريخ اليوم، أو كأنهم لم يشهدوا انهيار التجربة المحققة، أو كأنهم لم يصغوا إلى النصائح بإعادة القراءة وبالمزيد من الأناة والصبر والبال الطويل والخطط الستراتيجية.
أما فك التبعية، بحسب مصطلح مهدي عامل، والاستقلال الاقتصادي بحسب سمير أمين فقد أثبت الانهيار وما بعده بأنهما مهمتان مستحيلتان قبل تعميم الاشتراكية على العالم، وأن علاج التخلف يبدأ ببناء الدول والأوطان سيدة حرة مستقلة على أساس الدساتير والقوانين. إذن كان أولى بوثائق الحزب الشيوعي أن تشارك الثورة اللبنانية نضالها لإعادة بناء الوطن والدولة لا أن تشكك بالمجتمع المدني وتحكم على بعضه، اقتداء بأحكام الآخرين، بالعمالة للسفارات.
بعد أن بدا خطر الحلفاء الملموس على حياة الشيوعيين وعلى نضالهم أشد وأدهى من خطر الاستعمار، حملتني قراءتي النقدية للتجربة لا على القول فحسب بأننا كنا نقاتل عدواً وهمياً حين كنا نقاتل ضد الاستعمار، بل على كتابة مقالتين في جريدة المدن، حملت الأولى عنوان، «حاجتنا إلى الاستعمار» (5-10-2013) والثانية عنوان «جاذبية بلاد الاستعمار» (12-10-2013)، وما زلت متمسكاً بمضمونهمها، وعلى نشر كتاب عن الربيع العربي، عام 2016، أثبتت فيه أن العائق الأساس أمام نهضة بلداننا العربية هو استبداد الأنظمة بالشعوب، وأن التصويب على الاستعمار والعدو الخارجي ليس سوى وسيلة خبيثة لإشاحة النظر عن الاستبداد والخطر الداخلي، وتبرير لشن الحرب على الديمقراطية وعلى الدولة ومؤسساتها.
في الوثائق التحضيرية نكوص عن الانجازات وانقلاب على قرارات المؤتمر السادس، الذي هو بحق أهم محطة في حياة الحزب الشيوعي. بل إن فيها رائحة العودة إلى لغة البدايات في عشرينات القرن الماضي، بل إلى حكايات قديمة ومنها أن الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد حمل بيده رسالة قتله وسلمها إلى قاتله. أيها الشيوعيون انتبهوا. هذه الوثائق تشبه تلك الرسالة. لا تحملوها معكم إلى تشيّع الحزب في جبهة الممانعة ولا إلى تشييعه على مقصلتها.
الاستعمار، فك التبعية، الاستقلال الاقتصادي، التحرر الوطني، كلها أخطاء شائعة. سأحدثكم عن هذه الأخطاء المصطلحية القاتلة في مقالات لاحقة.
مقالات ذات صلة
مقالة الوداع
تهافت خطاب “الشيعية السياسية”
قمة التطبيع