25 نوفمبر، 2024

خطأ شائع (13)لا يبنى وطن على مرتكزات من الأخطاء الشائعة

https://www.nidaalwatan.com/article/69526

في مقالاتي التي حملت عنوان «خطأ شائع»، حاولت أن أبرهن كيف أن لبنان، الذي تمكن من تحرير أرضه أكثر من مرة، وظل صامداً أمام كل التحديات والتهديدات، وأنجب ثورة مبتكرة غير مسلحة طالبت بتطبيق النظام لا بإسقاط النظام، كيف أن فيه أكثر من «كعب أخيل» واحد أي أكثر من ثغرة أو نقطة ضعف تسلل منها أعداؤه في الداخل أو في الخارج، وما زالوا يتسللون.

نقاط ضعفه تعبر عنها أخطاء شائعة ومتداولة في ثقافتنا الوطنية، ترسخت في ركائز البنيان اللبناني ثم تكدست فوقها، عهداً رئاسياً بعد عهد، أخطاء أكثر فداحة، ما لبثت أن انفجرت كلها خلال الاحتفالات بمئوية لبنان الكبير بالتزامن مع الثورة والانهيار المالي والسياسي ومع الوباء العالمي كورونا.

نعت لبنان بـ»الكبير» خطأ قاتل مستدام لأنه استبطن وجود أكثر من لبنان، الصغير منه «جبل» ما كان إلحاق الجنوب والبقاع والشمال ذات الأغلبية المسلمة إلا «مكرمة ومنّة» من قادة الموارنة بمباركة الانتداب الفرنسي فصار الصغير كبيراً.

هذا الخطأ جمّد اللبنانيين تحت خط الانصهار الوطني، فجعلهم خليطاً مستحيلاً كالماء والزيت، أو مادة يسهل تفكيكها كما يتفكك الهواء أو الماء إلى أوكسيجين وآزوت وإيدروجين بقوة الصاعق الكهربائي. مسيحيو قريتي جرجوع ومسلموها ظلوا يتنادون ويتعارفون كـ»جيران» مع أن بعض بيوتهم مبنية على جدران مشتركة ولا تبعد فيها الكنيسة عن الجامع أكثر من مساحة غرفتين في بيتين متلاصقين. هذه كانت حال كل القرى اللبنانية المختلطة أو المتجاورة.

الجار قبل الدار. لكن اللبنانيين نبشوا التاريخ ليعرفوا من هو الجار ومن هو صاحب الدار، فضاعت الجمهورية اللبنانية بين ركام التواريخ، إذ راحت كل طائفة وكل منطقة تكتب تاريخها، حتى غدت الديار اللبنانية كأنها ملكيات خاصة للأوقاف والمؤسسات الدينية، فغيبوا العنصر المساعد (كاتاليزور) أي الدولة، الذي يستطيع وحده صناعة اللحمة بين المواطنين تماماً مثلما تصنع الشحنة الكهربائية ماء من الأوكسيجين والإيدروجين.

كلما دق كوز الطائفية بجرة الوطن تستعاد النزاعات حول حقوق الملكية وحول التاريخ. هل نبدأ من التوراة والملك سليمان وخشب الأرز أم من الفينيقيين وأسطورة أدونيس وعشتروت والصباغ الأرجواني أم من الفتح العربي والأمويين والخلافة الاسلامية، أم من آخر ما تفتقت عنه عقول الفيدراليين أو المطالبين بعودة الخلافة الإسلامية أو المناضلين في سبيل قيام أمة على أساس الدين أو القومية أو أممية على أسس اشتراكية.

من خطأ التسمية «لبنان الكبير» اشتقت مصطلحات عن الوحدة الوطنية من لغة التجارة لا من لغة السياسة، كالشركة والشراكة والعيش المشترك، وتناسلت أخطاء القوى السياسية، يميناً ويساراً وسلطة ومعارضة، حين استقوى الجميع بالخارج وتنصلوا من ارتكاباتهم ولم يروا فيها سوى حروب الآخرين، مع أن هؤلاء لم يتأخروا لحظة عن تمويل حروبنا وتسليحنا لكي نتقاتل ونخفض منسوب الديمقراطية التي وضع الأوائل أسسها، ثم استبدلها اللاحقون بالتشبيح الميليشيوي وحكم الأجهزة وتدمير القيم الدستورية وانتهاك القوانين.

من تلك الخطيئة الأصلية تحدر انحياز القوى المحلية، كل منها لطرف خارجي، بدءاً من انقسامهم بين عبد الناصر وحلف بغداد مروراً بالفسطاطين والثقافتين والجبهتين والمواجهة بين الممانعين والسياديين، والمفاضلة بين إيران والسعودية، وصولاً إلى المنازلة بين متضامن مع أوكرانيا ومغتبط بالهجوم الروسي.

مع تلك الأخطاء الشائعة شاعت مفاهيم مغلوطة عن الاستعمار والتحرر الوطني والاستقلال والنظام الطائفي والثورة والسلطة والديمقراطية، حتى بدت الدولة كائناً غريباً في قاموس المافيات الميليشيوية، كما، للأسف، في قواميس المؤرخين.

مع أنها لوحة سوداوية، لكن الأفق مسدود أمام التطرف، ولا حل بغير الدولة، يبدأ بالاتفاق على أن تاريخ الجمهورية اللبنانية يبدأ بتاريخ قيام الدولة التي بلغ عمرها قرناً من الزمن. ما قبل المئوية هو مما قبل التاريخ، لكل طائفة ومنطقة أن تكتب تاريخها، ولاية أو سنجقاً أو إقطاعية أو دسكرة، ولأنصار الدولة وحدهم أن يكتبوا تاريخ الجمهورية.

التاريخ الذي تعلمناه في مدارسنا هو تاريخ ولايات سابقة على تأسيس الكيان. ما قبل الدستور اللبناني عام 1926 هو مما قبل تاريخ الجمهورية. بهذا المعيار تشحن المصطلحات بمضامين جديدة ولا تعود الخيانة وجهة نظر ولا يحسب انتهاك الدستور بطولة ولا استقواء المحاصصين بطوائفهم قوة.

بهذا المعيار لا يبقى فضل لرئيس على رئيس ولا لمسؤول على مسؤول ولا لفريق على فريق ولا لحزب على حزب، إلا بمقدار التزامه بأحكام الدستور وبالمبادئ التي قامت عليها الجمهورية وبالنظام البرلماني الديمقراطي.

المكتبات مليئة بمؤلفات وكتب ومنشورات تحمل عناوين عن تاريخ الشيعة وتاريخ الموارنة وتاريخ الدروز وتاريخ الأحزاب وتاريخ المناطق ويوميات الحرب الأهلية والمقاومات ضد المحتل، وعن بيت بمنازل كثيرة وعن الطائفية والصراع الطائفي وعن الصراع على تاريخ لبنان وعن إعادة كتابة تاريخ لبنان، لكنها تنتظر من يزودها بكتاب يحكي تاريخ الجمهورية اللبنانية، تاريخ الوطن والدولة، ويتفادى كل الأخطاء الشائعة.