21 نوفمبر، 2024

في نقد 13 نيسان(18)القطاع المصرفي

8 تموز 2023

https://www.nidaalwatan.com/article/187153

دولة القانون والمؤسسات والمصرف من مواليد الحضارة الرأسمالية. يسيء التعامل معهما من يراهما من غير هذه الزاوية. ولد المصرف من رحمها قبل ولادة الدولة. باركت الكنيسة وفادته واستعانت بصكوكه ضد خصومها في حكاية الغفران. فعلت عكس ذلك مع العلم أولاً، فهددت غاليليه بالحرم إن لم يتراجع عن كروية الأرض ودورانها حول الشمس، ومع دولة القانون ثانياً إلى أن أقنعتها علمانية الثورة الفرنسية وقوة نابليون بونابرت العسكرية بأن ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

هذا في مهد تلك الحضارة، أي في مركزها بحسب تعبير سمير أمين. اختلف الأمر مع الأطراف. فالبلدان المستعمرة، ولبنان ليس منها، (لقد أثبتت ذلك بالتفصيل في كتابي أحزاب الله) دعيت قبل الاستقلال إلى الدخول في الرأسمالية من بابين، الاقتصاد والعلم، وأضافت إليهما بعد الاستقلال باب الدولة.

أزمة لبنان بدأت منذ أن عقدت فيه، خلافاً لما حصل بين نابليون والبابا، صفقة محاصصة لازمت نشأة لبنان وأزماته وحروبه وعهوده وحكوماته وبرلماناته، وباتت جزءاً ثابتاً وراسخاً من تقاليد سياسييه الرديئة والعلاقات بين حكامه في السلم كما في الحرب.

الدولة في مهد الرأسمالية جسدت قطيعة، بالمعنى الباشلاري للكلمة، مع دولة الأمبراطوريات والقياصرة، ورسمت خطوط تماس يحرّم اختراقها بين سيادة الدولة الحديثة على إدارة شؤون رعاياها وسيادة دولة الفاتيكان على القيم الروحية. في لبنان أزيلت خطوط التماس، فكانت شراكة تداخلت فيها الملكيات المشتركة والمناطق المحايدة. القطاع المصرفي من أبطال هذه الصفقة الشراكة وضحية من ضحاياها.

من يملك يحكم. هذا قانون سنّه التاريخ. القيصر والأمبراطور والملك والسلطان ملكوا باسم الله وحكموا باسمه. هذا معنى عبارة الملك لله التي نقرأها محفورة أو مرسومة على مداخل الأبنية أو مكتوبة في السجل العقاري في لبنان للتمييز بين الملكية الشخصية والملكية الأميرية. وهذا هو معنى أن الإقطاعي كان يملك الأرض وما عليها ومن عليها أيضاً، ويمارس استبداده استناداً إلى صك ملكية مزعوم ومدعوم من المؤسسة الدينية. وهذا هو معنى انفجار الثورة الفرنسية ضد اثنين، النبلاء أي الإقطاعيين، والإكليروس، الشريكين المتحاصصين في الحكم وفي الملكية.

قادة الثورة الفرنسية هم المالكون الجدد الرأسماليون أو من يمثلهم، أي البرجوازية بحسب المصطلح الماركسي، وهم الذين تولوا بناء الدولة الحديثة على أنقاض الممالك والأمبراطوريات، وأسسوا الجمهوريات والأنظمة الديمقراطية والعلمانية والدولة المدنية.

بدأت أزمات لبنان المتتالية منذ أن تخلى المالكون الجدد عن دورهم السياسي، وأوكلوا الأمر للمالكين القدامى من العائلات التي كانت تملك الأرض أيام السلطنة، وكان من الطبيعي أن يكون دور الكنيسة كبيراً في الحكم لأنها كانت مما قبل الانتداب، على ذمة المؤرخين والإحصاءات، من كبار ملاكي الأراضي.

الدولة التي تأسست في لبنان ليست إذن دولة الثورة الفرنسية، بل دولة النبلاء والإكليروس الذين قامت الثورة ضدهم. مع أنها اعتمدت أسماء ونعوتاً حديثة، كالجمهورية والدستور والنظام البرلماني الديمقراطي، لكنها استمرت تمول الحملات الانتخابية لتجديد ولاية الحاكمين القدامى الذين أطلقت الأدبيات الثورية عليهم اسم الإقطاع السياسي. عندما انفجرت الحرب الأهلية راحت البرجوازية تمول الميليشيات، وبعد فوات الأوان راح القطاع المصرفي يطلق من غير جدوى صرخات متتالية، ولا سيما بعد اغتيال رفيق الحريري، احتجاجاً على النهج الميليشيوي الحاكم الذي وضع الدولة ومؤسساتها على حافة الانهيار.

القطاع المصرفي أنقذ الوطن أكثر من مرة من انهيار اقتصادي لكن تخليه عن دوره السياسي للإقطاع السياسي ثم للميليشيات دمر الدولة. فهل باستعادة دوره المفقود نستعيد الوطن والدولة؟