لم يقل مهدي عامل إن “الطوائف لا تكون طوائف إلا بالدولة” إلا لاعتقاده بأن الطائفية في لبنان جزء من تكوين دولة البرجوازية البنيوي وبأنها مرض الدولة والنظام معاً. بناء على هذا التشخيص تحددت الوصفة اليسارية لعلاج هذا المرض ب”إلغاء الطائفية السياسية”.
ظن اليسار العلماني أنه بهذا الشعار يتجنب المواجهة مع الطوائف ويحصر المعركة مع النظام. غير أن حساب حقله لم يطابق حساب بيدره. بلغ اغتباط الإسلام السياسي بالشعار حد تفريغه من النوايا العلمانية وشحنه بمضمون طائفي، وبلغ ارتياب المارونية السياسية منه حد اعتباره معادياً وخطراً على الوجود المسيحي ما أملى عليها أن ترفع في وجهه شعار العلمنة الكاملة.
بين ارتياب فريق واغتباط فريق، دخل الإصلاح المنشود في طاحونة الطائفية، فتحولت المواجهة بين شعاري العلمنة وإلغاء الطائفية السياسية إلى صراع بين خوف الإسلام السياسي على قانون الأحوال الشخصية المختزل في العقول بمسألة الزواج المدني، وخوف المارونية السياسية على امتيازاتها في السلطة، وتعطلت بفعل ذلك آليات التفكير بأي إصلاح أو تحديث منشود. وتعطلت كذلك كتابة تاريخ مدرسي موحد للجمهورية اللبنانية.
خلال إعدادي كتاب”أحزاب الله” لاحظت أن العجز عن كتابة تاريخ موحد لم ينجم فحسب عن إعاقة في بنية تفكير السياسيين بل عن سوء استخدام للمصطلحات لدى الغالبية العظمى من المؤرخين أيضاً، حتى عند العلمانيين منهم. حفزتني هذه الملاحظة على تعقب هذه الظاهرة في أي نص يقع بين يدي حول هذا الموضوع من إصدارات ومقالات، وعلى تجميعها كمراجع لوضع كتاب عن الطائفية في المصطلحات.
من بين هذه المصطلحات، الصيغة اللبنانية، لبنان الكبير، الفدرالية، الشراكة، الدولة الوطنية، فضلا عن استخدام أسماء الطوائف، شيعة سنة موارنة دروز، باعتبارها كيانات سياسية، كالقول، يرفض الشيعية ويعترض السنة ويقترح الموارنة، أو تلك المجمّعة في عبارة واحدة من مقالة الأستاذ الجامعي أنطوان الدويهي في (جريدة الشرق الأوسط 5-11-2024 )” مائة واثنان وثمانون عاماً من الحوار المستحيل في المكان اللبناني، منذ سقوط الإمارة الشهابية عام 1842 حتى حرب «حزب الله”.
أربعة مصطلحات على الأقل خاطئة(لأنها طائفية) في هذه العبارة. أولها “مائة واثنان وثمانون عاماً”. هو يقصد فيها عمر وطن إسمه لبنان. يرى سواه أن لبنان قديم في التاريخ وإسمه ورد في الكتب الدينية. بعضهم يقول إنه فينيقي أو كنعاني، فيما يرى آخرون أنه بلد مصطنع وأن مكانه الطبيعي هو داخل الأمة الإسلامية أو الأمة العربية أو الأمة السورية أو الأمة الأممية، فيما يذهب المتعصبون إلى القول إنه نسيج وحده وأنه سويسرا الشرق أو منارته.
“الحوار المستحيل” مصطلح يحيل إلى اختلاف أو تنوع كان متداولاً بين اللبنانيين قبل الحرب الأهلية، من غير شحنات مسيئة، على غرار كلمة “جيران” التي كان يستخدمها القرويون للتعبير عن الآخر المختلف في الدين داخل القرية ذاتها. لكن الحرب الأهلية استبدلت “الجار قبل الدار” بالتطهير الطائفي ثم بالتطهير المذهبي كمقدمة لإلغاء الحوار ثم لجعله مستحيلاً، ولتحويل الاختلاف إلى خلاف بين “حضارتين وفسطاطين” ثم للفدرلة والطلاق والعودة إلى لبنان الصغير أو إلى نظام الملل العثماني.
“المكان” بديلاً من “الوطن” وكأن قرناً من الزمن ليس كافياً للتثبت من أن لبنان غدا وطناً بعد أن كان مجموعة من الولايات الخاضعة للسلطنة العثمانية، ولهذا تصر لغة ما قبل تشكل الأوطان على البقاء موضع التداول في الوعي لدى السياسيين كما لدى المؤرخين.
لا تعني عبارة “حرب حزب الله” غير الإصرار على أن ما سمي حرب الإسناد ليس سوى بعض “حروب الآخرين على أرضنا” وأنها تخص هذا الحزب وحده، فيما الحقيقة تشير إلى أنه يتابع سباق البدل في الخروج على الدستور بعد أن سبقته إلى ذلك ميليشيات يسارية ويمينية منذ اتفاقية القاهرة وانفجار الحرب الأهلية حيث كان لكل منها مشروعه خارج قوانين الدولة ومؤسساتها.
أنطوان الدويهي ليس وحيداً في استخدام مصطلحات طائفية، فقد شاركه في ذلك وربما سبقه إليها باحثون آخرون من كل الطوائف والمذاهب بمن في ذلك باحثون علمانيون.
وللحديث تتمة.
مقالات ذات صلة
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
الإذعان بعد فوات الأوان