30 ديسمبر، 2024

سقوط الطغيان والتحرر الوطني


  
الحوار المتمدن-العدد: 8196 – 2024 / 12 / 19 – 09:51

لا هو يوم استشهاده ولا يوم ميلاده ولا يوم اختياره أميناً عاماً ولا يوم استقالته ولا يوم عودته إلى رئاسة المجلس الوطني للحزب. تداعينا لنلتقي على نصب جورج حاوي بغير مناسبة، ومن دون تحضيرات مسبقة. فلا وسائل إعلام ولا خطابات. كان لقاء صغيراً لا يليق بقامته ومقامه الكبيرين. لقاء على عجل، لا لنستذكره بعد غياب بل لنحتفل معه بسقوط الطغيان.
الطغيان لا يجسده حاكم بمفرده أو حزب حاكم، بل هو نهج وعقل وأسلوب عمل. سقط نظام الأسد وقبله نظام صدام. قبل سقوطهما تعاقبت بينهما سنوات من النزاعات و أشهر عسل متقطعة. إحدى المحاولات الوحدوية حصلت بعد عام 1978. جورج حاوي زار حينذاك على التوالي زعيمي البلدين وعاد ليطلب من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني تنظيم الاحتفالات بقيام الوحدة بين البعثين.
رأى حاوي أن احتفاء الشيوعيين بهذا “الإنجاز التاريخي” يحصنهم ضد تحميلهم مسؤولية انهيار وشيك لتلك الوحدة التي لن تدوم أشهراً، بحسب تقديره، وتفادياً لخسائر قد يمنى بها الحزب، على غرار ما حصل غداة قيام الوحدة المصرية السورية عام 1958 تحت إسم الجمهورية العربية المتحدة.
تميز جورج حاوي بموهبة “الاستشعار عن بعد”. كان ذا بصيرة وذا قدرة على تجميع المعلومات من العواصم ومراكز القرار في بلدان حركة التحرر الوطني. في مطلع عام 1982، قال أمام اللجنة المركزية إن الاجتياح الإسرائيلي المتوقع سيصل إلى العاصمة. باع بيتاً كان يملكه على طريق بيروت دمشق، فيما تصرفت القيادة خلافاً لهذا الاستشعار، وصدّقت تصريحات وتقديرات ومعلومات متداولة عن احتلال لن يتجاوز مداه الأربعين كيلومتراً.
كما تميز ببراعته في شرح أفكاره بالأمثال. جواباً على سؤال الصحافية جيزال خوري عن سطوة ماضيه على حاضره، قال إنه ينظر إليه كما ينظر السائق في المرآة الخلفية، لكي يحسن قيادة السيارة إلى الأمام. خلال التحضير للمؤتمر السادس للحزب، رأى أن سفينة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي ومعه المنظومة الاشتراكية مهددة بالغرق وما على ركاب الأممية إلا العودة إلى الشاطئ بقوارب النجاة ليبنوا، كل في بلده، سفينته الخاصة ويستأنف الإبحار.
القارب الذي عاد به جورج حاوي حط في “غدراس” مقر إقامة قائد القوات اللبنانية سمير جعجع. قررا العودة، كل على طريقته، إلى “لبنان أولاً” وإلى تجاوز خصومات الماضي. كان ذلك القرار سبباً باغتيال أحدهما وبسجن الآخر.
غداة اغتياله كتبت مقالتين بعنوان واحد، مقطع من وصية لم تكتب، (1) و(2)، رويت فيهما، على لسانه، بعضاً من أفكار كانت تدور في خلده ولم يخرجها إلى العلن نصوصاً مكتوبة أو كلاماً منطوقاً في مقابلاته المتلفزة وتصريحاته اليومية. أعتقد أن مخيلتي صوبت يومذاك إلى حيث كان يفكر جورج حاوي. كانت الوصية ناقصة لأنني قصرت عن جرأته، وقلت في الحاشية معتذراً، لو كتبها جورج بقلمه لكانت أكثر وضوحاً.
لم يعترف أحد بأن الانهيارات التي حصلت في تسعينات القرن الماضي أصابت الأحزاب اليسارية كلها والتقدمية كلها والقومية كلها. بعضها راح يبحث عن حصته من إرث الشيوعيين الثوري، فيما انطوى الحزب الشيوعي على ماضيه وطال استغراقه النظر في المرآة فضيع المسلك نحو المستقبل، وظلت القضية الفلسطينية ملاذ الجميع والينبوع الذي ينهلون منه خطابهم السياسي المناهض للاستعمار والإمبريالية والصهيونية والشيطان الأكبر.
في المقطع الثالث من وصية لم تكتب، قد يقول جورج حاوي إن انهيار النظام السوري ليس حدثاً عادياً في التاريخ الحديث. لم تعد المكابرة تجدي. صار التحرر الوطني ذكرى أليمة. لم تعد المقرات والأختام والتصريحات دليلاً كافياً على وجود الأحزاب، لا القومي منها ولا اليساري ولا تيارات الإسلام السياسي.
فلسطين وحدها ستبقى القضية الحية، فهي الوحيدة المتبقية من تركة الاستعمار والتمييز العنصري، لكنها ليست ضحية الاستبداد الوحيدة في هذا الشرق. في فلسطين كما في سوريا كما في لبنان، أو في بلدان الربيع العربي أو في بلدان السلالات لا حل إلا بالدخول في الحضارة عن طريق إقامة الدولة، دولة الدستور والقانون والمؤسسات.

About The Author