5 نوفمبر، 2024

الارهاب والتديّن

29-7-2016

منذ كان العنف المسلح ماركة مسجلة باسم اليسار الأممي إلى أن فقد وكالته الحصرية، ومنذ كانت رموز “الرأسمالية المتوحشة” ضحية محتملة من ضحاياه إلى أن صار الكون كله هدفاً من أهدافه، ظل احتمال الشبهة يلاحق المسافرين بين المطارات، وتضاعفت الرقابة عليهم حتى الكشف عما في داخل الجسد وتحت الجلد.

تقلصت المسافة وامحت الفوارق،  بين أن يستخدم العنف أداة في يد الثورة وأن يسمى إرهاباً ، ولاسيما بعد انتصار الانقلابات العسكرية على الثورات. لم يكن اليسار ليقبل مقارنة عنفه “الثوري” بالعنف “الرجعي”، وفشل في رد تهمة الارهاب عن عمليات خطف الطائرات والاعتداءات التي كانت تطال مدنيين.

الألوية الحمراء و منظمة بادرماينهوف نجحتا بنشر الرعب ولا سيما بعد الانتصار الفيتنامي على الولايات المتحدة الأميركية، الانتصار الذي جعل هوشي منه رمزاً وساعد على ارتفاع الرايات الحمراء وأعلان الأحكام العرفية باسم مجالس قيادة الثورة في أكثر من بلد من بلدان العالم الثالث.

كان لابد من لقاء الخصوم لمواجهة الأصولية الاشتراكية، فكان تحالف مقدس مع الأصوليات الدينية تولى الغرب فيه الرعاية والتمويل وحماية القادة من بطش “الأصوليات العلمانية” المحلية، إلى أن اشتد ساعد الارهاب الديني فراح الغرب يدفع ثمن جنونه، ولا سيما بعد انهيار التجربة اليسارية وتحول العالم كله إلى ساحة للفوضى اختلط فيها حابل الارهاب بنابل الثورة.

القضية الفلسطينية وحدها امتلكت الحق باستخدام العنف من غير ضوابط، ولم تعبأ بالتسمية. ليقل العالم ما يقول، فالارهاب الصهيوني فاق كل حدود التخيل وقدم الحجة والذريعة والتبرير ليفعل الشعب الفلسطيني المستحيل دفاعا عن حقه المشروع في العودة إلى أرض فلسطين.

سقط اليسار واختلس ثوار مزعومون الثورة. كان “إرهابه” من أجل تغيير العالم لا من أجل تفسيره، من أجل “وطن حر وشعب سعيد” في حين يتقاتل إرهابيو اليوم على تفسير الآيات. إرهابي الأمس كان يقاتل من غير بدل، وأجره حلم جميل ببناء مستقبل أفضل للبشرية. أما إرهابيو اليوم فمعظمهم  يعاني من “اضطرابات  نفسية” وجلهم من ذوي السوابق ومن خريجي السجون وعصفوريات(مستشفيات المجانين) العولمة أو من الطامعين بجنة الله الموعودة في السماء.

يبحث البحاثة في أصل الظاهرة. هل الأسباب اقتصادية أم ثقافية؟ هل هي نتيجة خلل في انتظام العلاقات بين البشر داخل المجتمعات أو بين الدول؟ أم هي بعض أثمان التفاوت الطبقي؟ أم هي ناجمة عن خواء ثقافي أو نابعة من تعصب أعمى لا يصاب به إلا الجهلاء؟ أم أنها في أصل الدين وفصله وفي نصوصه وطقوسه؟

كل التحليلات جرى تجريبها. اتهم الدين والمتدينون، اليسار والشيوعيون، ونسب العنف إلى العقل البدوي أو القبلي الذي لم يتقن بعد فن تقليب الحقائق على جميع وجوهها. كل محاولات الاصلاح الديني والثقافي والاقتصادي والاجتماعي لم تفلح في وضع نظرية للمعالجة. قيل الكثير عن ثنائية التخلف والتقدم، وثنائية علوم الغيب والعلوم الوضعية، وثنائية القومي والديني. عقدت مؤتمرات وسال حبر كثير على بحوث ميدانية تدرس أصل الظاهرة في محاولة لتجفيف ينابيعها المالية والفكرية. لكن العنف استمر يستشري وتتضاعف مخاطر الارهاب، بحيث لم تعد تسلم منه منطقة من مناطق العالم.

تعالوا نجرب هذا التحليل. الارهاب هو أسلوب وصيغة من العنف لمقاومة الدخول في الحداثة الرأسمالية. شهد العالم عينات منه منذ الثورة الفرنسية. البلدان التي توصلت إلى علاج هذا المرض الفتاك هي تلك التي خبرت  ويلاته منذ  مقصلة الثورة حتى الحربين العالميتين،  وما نجحت إلا لأنها شرّعت في قوانينها للتنوع والتعدد واحترام الرأي الآخر وقضت على كل استبداد عنوانه “أنا أو لا أحد”. وهذا لا تصنعه حركة إصلاح ديني أو ثقافي أو اجتماعي، ولا تبنيه سياسات ومعالجات اقتصادية.

المسؤول عن استمرار هذه الآفة طرفان. الغرب لأنه يمارس بحق شعوب الأرض إرهاباً من نوع آخر. فهو يتحالف مع أنظمة الاستبداد ويرعاها ويساعدها ويحميها لأنه يبغي بناء علاقات استثماره الرأسمالي في اتجاه واحد، ولأنه دعم في منطقتنا المشروع الصهيوني وفرط بحق الشعب الفلسطيني. الطرف الثاني هو كل سياسي على الساحة المحلية يعيث فساداً( يسرق ويكذب ويخون وينتهك القوانين والقيم الأخلاقية والوصايا العشر) ويجعل حتى من صناديق الاقتراع أداة من أدوات الاستبداد.

هذا بالضبط ما يجسده الطرفان في الأزمة السورية وفي الأزمة اللبنانية على سبيل المثل لا الحصر. في الأولى استبداد داخلي ورعاية غربية. ألا تكفي المجازر والبراميل المتفجرة وكل هذه الأثمان الباهظة بشراً وحجراً لاستخلاص العبرة والاقدام بلا تردد على مساعدة الشعب السوري للتخلص من نظام القهر وإعادة بناء الدولة على أساس التنوع والتعدد.

أما في الثانية فاستبداد مع صناديق اقتراع. الفساد الفاجر استبداد. انتهاك الدستور استبداد. سرقة المال العام استبداد. العجز عن حل أزمات الماء والكهرباء والنفايات استبداد، الاستخفاف بالرأي العام استبداد. جعل القرارات النفطية جزءاً من اهتمامات  وزارة الخارجية استبداد. حصر الترشيح لرئاسة الجمهورية بسليمان فرنجية وميشال عون استبداد. وقاحة الحاكم الفاسد وبقاؤه فاشلاً على كرسيه استبداد… تعامل الغرب باحترام مع هذه العينات من السياسيين الفاسدين هو استهتار بكرامات الشعوب واستبداد ما بعده استبداد.

الغرب الرأسمالي لم يقرأ ماركس جيدا، ولم يصغ إلى نصائحه، فلو فعل  لبذل بالتطور الأفقي اهتماماً يوازي اهتمامه بالتطور العمودي. جشع في نهب القيمة الزائدة وحرص على تعميم القيم الاقتصادية للرأسمالية  دون قيمها السياسية. الاستثمار ليس إنجازها الوحيد، وهي دفعت في بلدانها ثمن تباطؤها في بناء الديمقراطية، وتدفع اليوم الثمن مضاعفاً لأنها ترعى الاستبداد في بلادنا.

المصدر :

https://www.almodon.com/opinion/2016/7/30/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D9%8A%D9%86