20 أبريل، 2024

في نقد جورج حاوي

25-6-2016

في الذكرى السنوية نستحضره في صور ومقالات وخطابات ومواقف . قلت في نفسي، هذه المرة سأخرج عن المألوف، ورحت أبحث عن سبيل آخر للتكريم، فجاءني التأكيد من صديق افتراضي، بأن أفضل تكريم هو النقد. والنقد في الأصل مخصص لاستخلاص الدروس والعبر، غير أن الرائج منه في بلادنا يميل إلى الشتم والتشهير، ما يجعل الهم الأول منصبّاً على منع الصيد في الماء العكر.

ما من أحد أقدر منه على نقد نفسه. هو رائد في النقد الذاتي. أذكره في الأعمال التحضيرية للمؤتمر السادس، وهو، في نظري، أهم مؤتمرات الحزب، حين كان يقرأ أخطاء التجربة بشجاعة، كان الآخرون يخافون من جرأته  في القول إن قيادة الحزب تتحمل المسؤولية عن كل الأخطاء، كل حسب موقعه. ما يعني أن حصة الأمين العام هي الأكبر. لا تصدقوا أننا كنا ديمقراطيين، وأن المؤتمر سيد نفسه ، وأنه هو الذي يختار القيادة. لا . الأمين العام هو الذي يسمي أعضاء المكتب السياسي، والمكتب السياسي هو الذي يعين اللجنة المركزية، وهذه ترسم شكل المؤتمر. استفتاء بدل الاقتراع. وهذا من طبيعة الأحزاب الشمولية. وهو اللبنة الأولى في صناعة الاستبداد.

في ذلك المؤتمر عرض على القيادة أن تقدم استقالتها، لأنها قدمت أفضل الممكن عندها. يعني أن تنسحب وتتوارى، تاركة للشيوعيين أن يقرروا مستقبل حزبهم وأن يختاروا قيادة لا تكون أسيرة لماضيها، مع أنه  ماض مليء بالتضحيات والصفحات المشرقة. مسيرة طويلة وجميلة. وجيل من الشيوعيين تربى في مدرسة جورج حاوي على قيم نضالية وأخلاقية كان من ثمراتها  نهوض يساري عارم ودور بارز للحزب وأسماء لمعت في كل المجالات، في الثقافة والسياسة والعمل النقابي. نجاح باهر في التفاصيل وحضور على الصعيد الوطني والقومي والدولي، لكن المسيرة انتهت إلى فشل. انهار مشروع الحركة الوطنية اللبنانية ومشروع حركة التحرر الوطني العربية والمشروع الاشتراكي.

فزعت القيادة من العرض. وحده قرر الاستقالة باحثاً عن إطار جديد، عن حزب جديد، عن حركة لا تتسع أطر الحزب لها. قال لهم إن الحزب القديم مات. استحضر من شعر امرئ القيس ليقنع الشيوعيين بأن الانهيار لن يقف في منتصف الطريق… كجلمود صخر حطه السيل من علٍ… ولن يتوقف صخر الحزب قبل قعر الانهيار. كل  يقدّر، بمعاييره الخاصة، أين هو القعر. قد يكون أيام الورثة الذين تلعثموا في نضالهم ومشوا بخطوات غير ثابتة ، أو في عهد قيادة زلت قدمها نحو هاوية بلا قعر.

لم تكن المرة الأولى التي ينشد فيها بلوغ الحدود القصوى. لم يكن يرضى بأنصاف الحلول. لا وجود لنصف ثورة. هكذا قال لحركة الرابع عشر من آذار حين نصحهم بعدم التوقف في منتصف الطريق. كان كأنه المقصود في قول أبي فراس، لنا الصدر دون العالمين أو القبر. لم يقتنع المتشددون بموت الحزب القديم، وظلوا يحلمون بعودة الاتحاد السوفياتي، واستمروا يفكرون بالأدوات القديمة ذاتها، ويستخدمون مصطلحات الصراع القديم بين الجبارين أو بين المعسكرين، ووظفوها لتخوينه. خيمة وحيدة رفعوها داخل معسكر منهار تتبعثر في زواياه أحزاب شيوعية مشتتة متهالكة.

جورج كان يرى أبعد مما يراه الآخرون. بحدس نافذ ومنطق متماسك. لم تمنعه هذه المزية من ممارسة التكتيك ببراعة ومن معرفة التفاصيل وإتقان الخوض فيها. كان أفضل من قدم إلى القيادة تقريراً عن القطاع الثقافي مع أنه لم يكن بمقاييس الحزب الرسمي من المثقفين، وأفضل من قدم تقريراً نقابياً، وأفضل من قدم تقريراً عن “الوضع الداخلي بعد جولة له في الخارج”، بحسب تعبير أحد رفاقه في القيادة.

كان، بحسه السليم، يتقن فن مخاطبة الناس، ودغدغة مشاعرهم. كنت واحداُ من ثلاثة في لجنة صياغة الوثائق الصادرة عن المؤتمر. حسن حمدان وكريم مروة كانا يمعنان النظر في تركيب الجملة وقواعد اللغة واختيار المصطلحات، ثم يحيلون النصوص بعدها إليّ للتدقيق النهائي. أخبر جورج اللجنة المركزية أن محمد علي مقلد كان، حين يصل إليه النص معدلاً، يعيده إلى صياغته الأولى، الأصلية، التي كان جورج قد وضعها كمشروع أو مسودة وأقرها المؤتمر. نعم ، كنت أفعل ذلك، لأنني كنت أتعامل مع النص كقارئ. لغة جورج كانت أقرب إلى الأفهام من لغة المثقفين.

هذا المديح النابع من إعجاب بشخصه ونهجه، هو الذي يملي علي طرح السؤال النقدي عن موهبة جورج وسرعة بديهته وكثرة مبادراته. لماذا قصرت عن استشراف الهزيمة؟ لينين اكتشف، في غمرة انتصار الثورة، أن البرجوازية ورأس المال ضرورة لا يمكن الاستغناء عنهما في بناء المستقبل الاشتراكي. لكن جورج انتظر الهزيمة والانهيارات ليكتشف حقائقه المرّة. رغم كثرة كلامنا عن الماركسية اللينينية، كنا جميعاً، بقيادته، أقرب في منهج تفكيرنا إلى الستالينية التي واجهت الصعوبات بحزم وقدمت للبشرية أهم أنجاز في عصرها، أي الانتصار على النازية، لكنها لم تحسن قراءة التاريخ على طريقة ماركس ولا الثورة على طريقة لينين.

كلنا معنيون بالبحث عن جواب على هذا السؤال، وتبقى حصة جورج من المسؤولية متناسبة طرداً مع حجم دوره وموقعه. لو أتيحت له قراءة التجربة قراءة نقدية لبدا أكثر شجاعة وأكثر تواضعا. وفي جميع الحالات، لا بد من البحث عن يسار جديد قد لا يكون لينينيا ولا ستالينيا، عن يسار خاص بكل بلد، نابع من الظروف الملموسة في كل بلد. عن يسار يحمل اسم البلد الذي يناضل فيه ومن أجله، عن يسار في لبنان لا يحمل غير اسم اليسار اللبناني. عن يسار عالمي يكافح من أجل التقدم والحرية والعدالة .

المصدر :

https://www.almodon.com/opinion/2016/6/25/%D9%81%D9%8A-%D9%86%D9%82%D8%AF-%D8%AC%D9%88%D8%B1%D8%AC-%D8%AD%D8%A7%D9%88%D9%8A