19 أبريل، 2024

ميليشيات تتقن فنون التدمير

3-6-2016

التعليم هو أكبر ضحايا الحرب الأهلية. لم تكن الميليشيات المسلحة في حاجة إلى مساعدة خارجية لتفعل فعلتها، فقد كان يكفيها أنها، في بداية الحرب، وزعت الجامعة على فروع في المناطق الموزعة أصلا بين الطوائف والميليشيات المسلحة، لكي يتدنى مستوى التعليم الجامعي بداية ثم الثانوي كنتيجة لتدني الأول.

التعليم الرسمي، ولا سيما في المرحلة الثانوية، والتعليم الجامعي الرسمي، أي الجامعة اللبنانية كانا، حتى بداية الحرب، يخرجان طلاباً على مستوى عال من الكفاءة. تشهد على ذلك جامعات أوروبية كانت تستقبلهم لمتابعة تخصصهم العالي. رغم تقسيم الجامعة وتفريعها، استطاع الرعيل الأول من أساتذتها وخريجيها أن يحافظ على مستواه الرفيع، إلى أن صار العقل الميليشيوي هو المتحكم بمفاصل الدولة، فارتفع ملاك أساتذة الجامعة اللبنانية بين عامي 1987 و1991 من حوالي المئة إلى حوالي الألفين، ثم أخذ يتضاعف العدد وينحدر المستوى، ما انعكس على التعليم الثانوي، وبالتالي على الطلاب الجامعيين، وغدا التدهور يتوالد ويتناسل ويتعمم على كل مراحل التعليم بدءاً من الابتدائي.

تضم الجامعة اليوم عدة آلاف من الأساتذة، لم يقدم معظمهم بحثاً علمياً واحداً، ولم يصدر كتاباً واحداً، ولم يكتب مقالة صحافية واحدة، مكتفياً من التحصيل العلمي برسالته الجامعية (بعضها مشكوك بمصدرها وبمستواها حتى لو كانت صادرة عن جامعات أجنبية وفي بلدان أجنبية). أما التعيينات الأخيرة التي صدرت عام 2015 فلم يكن جميع المعينين مستوفين الشروط الأكاديمية، بل تم اختيارهم بناء على معايير المحاصصة الميليشيوية.

بلغت الجامعة اللبنانية ذروة تألقها الأكاديمي عندما بدأت الحرب، ومن بين من تخرج منها قياديون لعبوا دوراً أساسياً في الحرب الأهلية. وحين تفرعت إلى خمس عام 1977، صارت الفروع مراكز نشاط للميليشيات المحلية، وتحولت نشاطات الطلاب السياسية إلى روافد للتجنيد، فضلا عن انتقال شكل من الحرب الأهلية إلى داخلها ، فصار يقل فيها العلم وتختفي الاهتمامات الاكاديمية والبحثية لتنمو، في المقابل، أنشطة سياسية وحزبية، وغدا التركيب الاجتماعي والسياسي في كل فرع على صورة المنطقة التي يوجد فيها، خليطاً إسلامياً في بيروت بغلبة من الشيعية السياسية على معظم الكليات، وأغلبية شيعية في الجنوب مع هيمنة للشيعية السياسية، أغلبية مسيحية كاسحة في الفروع الثانية، وخليط اسلامي مسيحي في الشمال والبقاع. غير أن نشاط التنظيمات المسيحية ظل محصورا في الفروع الثانية، فيما تحولت الفروع الأخرى إلى ما يشبه المساجد، وانتشرت فيها المصليات، وطليت جدرانها ولوحات إعلاناتها بإعلام حزبي فاقع، وغدت منتدياتها الثقافية وقاعاتها منصات دينية، واستبدل الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية، بلجان حزبية تعكس موازين القوى المحلية. أما رابطة الاساتذة المتفرغين فيها فقد تدجنت مع الوقت لتصير صورة مصغرة عن الطبقة الحاكمة المتحاصصة في أعلى هرم السلطة.

في التعليم الرسمي تراجع المستوى تراجعاً دراماتيكياً، كما ونوعاً. فقد أقفلت مدارس عديدة إضافة إلى أخرى مهددة بالاقفال، بسبب التناقص المتسارع في عدد الطلاب، وتم توزيع المدرسين على المدارس بصورة عشوائية، من غير أن تراعى اختصاصاتهم، وتكدست أعداد منهم في مدارس لا طلاب فيها، وصار يتم التعاقد مع مدرسين، رغم وجود عدد منهم يفيض عن حاجة المدرسة.

إذا كانت آثار تدمير الدولة لا تظهر واضحة في قطاع التعليم فهي ساطعة الوضوح في الإدارة العامة. تشير إحصاءات” استراتيجية تنمية الإدارة العامة وتطويرها في لبنان”(2015)، إلى أن نسبة الشغور في ملاك موظفي الإدارات العامة اللبنانية وصلت إلى 70%. إذ بلغ العدد الاجمالي للمراكز الشاغرة 15344  في كل الفئات ولا سيما الفئتين الثانية والثالثة، من أصل22029 وظيفة ملحوظة في الملاك الإداري العام، أي أن الوظائف المشغولة لا تتعدى 6685 وظيفة.

اللبنات الأولى للدولة “النظرية” وضعتها أول حكومة تشكلت في عهد فؤاد شهاب، في خريف عام 1958، بإصدارها مراسيم تنظيمية بهدف تحويل الدولة إلى دولة مؤسسات. فبالإضافة إلى المؤسسات السياسية، رئاسة الجمهوية، مجلس الوزراء، المجلس النيابي، أنشأت الحكومة مؤسسات إدارية، سميت مؤسسات الرقابة على عمل الإدارة، وتمثلت بمجلس الخدمة المدنية، الذي يشرف على تعيين الموظفين ويتابع شؤونهم، وهيئة التفتيش المركزي بفروعها المتعددة، المالي والإداري والهندسي والتربوي، الخ. وديوان المحاسبة، ومجلس التأديب العام.

تشكلت الحكومة الرباعية من رشيد كرامي رئيسا ووزيراً للمالية والاقتصاد الوطني والدفاع الوطني والأنباء، وحسين العويني وزيرأ للخارجية والمغتربين والتصميم العام والعدلية، وبيار الجميل وزيراً للأشغال العامة والتربية الوطنية والصحة والزراعة، وريمون إده وزيراً للداخلية والشؤون الاجتماعية والبرق والبريد والهاتف. سنّيان ومارونيان، في حكومتهم، وخلال شهرين، من نيسان إلى حزيران 1959 تم إقرار المراسيم الاشتراعية التي أعادت بناء الدولة لتكون قريبة من الدولة “النظرية”.

الحقيقة الأولى التي تؤكدها هذه الواقعة تتمثل في أن حكومة مؤلفة من ممثلي طائفتين من أصل 18 طائفة أمكن لها أن تبني “صيغة للعيش المشترك” وأن تحافظ عليها، ما يعني أن مثل هذه الصيغة لا تبنى بتمثيل الطوائف بل بالقانون. والحقيقة الثانية تفضح كل الادعاءات التي يطلقها سياسيو اليوم( 2015) حول حقوق الطوائف، ومتاجرتهم بميثاق العيش المشترك والتعايش الطائفي، وتؤكد أن الفارق كبير جدا بين رجل الدولة ورجل السياسة، وبين السياسي ذي الأفق الوطني والآخر المحاصص الرخيص.

عمرت هذه الحكومة عاماً كاملاً من 17-10-1958 إلى 7-10-1959 ليعاد تشكيلها، بعد استقالة الوزير ريمون إده، ويضم إلى صفوفها كل من موريس زوين( بديلاً من الوزير المستقيل) وفؤاد نجار الدرزي، وعلي بزي الشيعي، وفؤاد بطرس الأرثوذكسي، وفيليب تقلا الكاثوليكي.

بدأ تدمير ما بناه فؤاد شهاب في وقت مبكر، مع أول حكومة تشكلت برئاسة صائب سلام في عهد سليمان فرنجية في عام 1970، إثر حملة شنها الحلف الثلاثي ضد الشهابية، بذريعة محاربة العمل المخابراتي وتعزيز الديمقراطية. غير أن تلك الحملة أصابت أول ما أصابت، ليس عاهات الشهابية متمثلة بحكم المكتب الثاني( مخابرات الجيش) بل إنجازاتها متمثلة بمؤسسات الدولة، وكأن ذلك جاء ليؤكد صحة موقف الرئيس شهاب من الطبقة السياسية الحاكمة وعدم ثقته بها، وليؤكد أيضاً أن التعديلات التي أجراها على قانون الانتخاب لم تكن كافية لتجديد النخب الحاكمة التي تمكنت من التجديد لنفسها وحالت دون تداول السلطة بالمعنى الديمقراطي للكلمة لا بالمعنى التحاصصي، كما جاء تعبيراً عن رغبة بالتراجع عن مشروع الدولة (دولة القانون والمؤسسات) والعودة إلى ما قبلها، وتمهيداً لتخريبها، وتحضيراً لانفجار الحرب الأهلية.

يرى الخبراء الحريصون على الدولة ومؤسساتها أن الإدارة ظلت بخير ويمكن أن تظل ما دامت  في منأى عن التدخل السياسي، أي إن استمرت تعمل وفقاً لمعايير القانون، والدليل على ذلك أن إدارات الدولة ما زالت تعمل(2015)، وإن بتعثر، في ظل الشغور في موقع رئاسة الجمهورية وتعطل مجلسي النواب والوزراء. القانون هو ضمانة استمرار العمل في مؤسسات الدولة. حيث ينتهك القانون يتعطل عمل الدولة. ويستدل على ذلك بحالة مماثلة حصلت في بلجيكا التي استمرت من غير حكومة لأكثر من عامين، من غير أن يربك ذلك عمل الدولة. القانون هو الشرط الضروري والأول لعمل الدولة، أما الحكومة فهي ليست سوى مؤسسة من مؤسساتها.

لكن إدارات الدولة ظلت تعمل ببقايا القانون، بعد أن تغلغل العقل الميليشوي إلى مفاصله وانتهك حرمته وحرمة الدستور والدولة ، وعطل عمل المؤسسات، وتجليات ذلك كثيرة.

الرغبة بالاصلاح أدت عكس مقاصدها. والسبب بسيط جداً. لقد دار النقاش بين قوى السلطة والمعارضة، قبل الحرب، وتمحور حول البحث عن حلول طائفية للظاهرة الطائفية، فبدا إقرار  الاصلاحات المقترحة في مؤتمر الطائف كأنه هزيمة للمسيحيين لا للمارونية السياسية،  وانتصار للسنية السياسية لا للحركة الوطنية اليسارية، فتجلى ذلك بحالة من الاستسلام والاحباط ، وانعكس بنوع من اللامبالاة لدى المسيحيين تجاه الوظيفة العامة في الإدارة وفي السلك العسكري، جيشاً وقوى أمنية.

تقول إحصاءات إحدى المؤسسات المسيحية( لابورا) على لسان رئيسها الأب طوني خضره، أن اتفاق الطائف خفض نسبة المسيحيين في الوظيفة العامة. ولولا جهود بذلت لما ارتفعت النسبة مجدداً. ففي عام 1990 كانت النسبة 48%، ثم صارت سنة 2008 ، 14%، لتعود سنة 2014 إلى 29% ثم إلى 34%.

بدأت المارونية السياسية( الحلف الثلاثي) بتدمير المؤسسات ثم استكملت المهمة ميليشيات الحرب، لتبلغ عملية التدمير ذروتها في فترة الوصاية السورية. لقد ظلت هيئات الرقابة تعمل، من غير أن تكون قراراتها ملزمة. صارت الحكومة تلتف على أحكام مجلس شورى الدولة، وتعمل خلافاً لقرارات مجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة، وتسعى إلى تجاوز قرارات هيئة التفتيش المركزي ومجلس التأديب، أي المحكمة الإدارية الخاصة بالموظفين.

 بلغت حال الإدارة حداً مأساوياً، لأن نظام الوصاية عمل على “تعليق” الدستور تعليقاً عملياً من غير إعلان ومن دون بيان رقم واحد. بعد تدمير المؤسسات الكبرى( رئاسة الجمهورية ومجلسي النواب والوزراء) صار تخريب المؤسسات الأخرى أقل كلفة. إذ بات ممكناً، على سبيل المثل، تعيين رئيس لهيئة التفتيش المركزي لا تنطبق عليه المواصفات الواردة في القانون. ( ف. ه. حائز على شهادة في العلوم الاجتماعية لا في الحقوق؛ ر. ص. عين برتبة رئيس دائرة من خارج الآليات المتبعة في مجلس الخدمة المدنية ثم عين بعدها مديراً عاماً في إحدى الوزارات).

في غياب القانون والمحاسبة والمعاقبة، يصبح كل شيء مباحاً ومبرراً. أعمال هيئة التفتيش المركزي علقت بسبب خلاف شخصي بين عضوين فيها، لكل منهما مرجعه السياسي\ الميليشوي، بديلاً عن احتكامهما إلى القانون. ديوان المحاسبة يعاني من شغور يصل إلى حد النصف من ملاكه، قضاة ومراقبين، وذلك بسبب خلاف على المحاصصة ، ومن توقفه عن وضع تقاريره السنوية. مجلس الخدمة المدنية اقتصرت صلاحياته على تنظيم المباريات وإعلان النتائج مع الحفاظ على مستوى عال من النزاهة واحترام الكفاءة، غير أن السلطة السياسية لا تعمل بموجب القرارات الصادرة عنه، بل بموجب منطق المحاصصة إياه، الذي يطيح بالكفاءة ويوكل الوظائف بالإنابة لغير الناجحين في المباريات، ممن يدينون بالولاء للزعيم ويرفعون صورته فوق مكاتبهم بديلا من صورة رئيس الجمهورية.

بعد القرار الحكومي بوقف التوظيف في الإدارة العامة، عمد الوزراء إلى التحايل على القرار باللجوء إلى أسلوب التعاقد مع أشخاص من غير استشارة مجلس الخدمة المدنية، حتى لو كانت الإدارة المختصة في غير حاجة إلى موظفين جدد. حصل ذلك في كل الوزارات والمؤسسات تقريباً، ولا سيما في الإعلام حيث تم التعاقد مع “متعاملين” ، أي مع من تتعامل الوزارة  معهم للحصول على أخبار، من غير الالتزام بأدنى معايير الكفاءة، حتى أن بعضهم كانت تنطبق عليه معايير الأمية الموصوفة، أي أنه لم يكن يجيد القراءة ولا الكتابة؛ وكذلك في مؤسسة الكهرباء، وفي التعليم الابتدائي والثانوي.   في وزارة الاتصالات بلغ الشغور 95%. من أصل 1700 موظف، 70 منهم فقط ما زالوا يمارسون عملهم، والوزارة ضائعة بين قرار عدم التوظيف وقرار تشكيل الهيئة العامة للاتصالات، أوجيرو، بين أن تكون وزارة الاتصالات إدارة عامة أو مؤسسة عامة أو شركة خاصة.

بعد مضي عام على التعاقد، كان يلجأ المتعاقدون إلى الاضراب مطالبين بتثبيتهم في ملاك الدولة، فتنصاع السلطة الميليشيوية لضغطهم وتجري لهم امتحانات “محصورة”، بإشراف مجلس الخدمة المدنية، ثم يعين الناجحون في ملاك الوزارة، وينتظر الراسبون عاماً آخر ليعلنوا الاضراب مطالبين بتعيينهم أسوة بالناجحين من زملائهم. أما الذين لا يخضعون لامتحان التأهل للوظيفه فيتم توزيعهم على إدارات الدولة، من غير أن تكون ثمة حاجة إليهم. لقد كانت هذه الآلية في اختيار الموظفين بمثابة رصاصة الرحمة على عمل الإدارة، لأنها قضت على خط الدفاع الأخير المتمثل بالكفاءة وتكافؤ الفرص .

دولة المؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص لا تبنى بالمحاصصة ، بل بالقانون. العقل الميليشيوي هو عدو القانون.

المصدر :

https://www.almodon.com/opinion/2016/6/3/%D9%85%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%B4%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D8%AA%D9%82%D9%86-%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D9%85%D9%8A%D8%B1