23 نوفمبر، 2024

في نقد الحرب الأهلية..على الدولة

23-4-2016

بدت الحرب الأهلية كأنها حرب على الدولة. حرب قبل أن تبدأ الحرب. حرب على المصطلحات في البداية. الدولة والحكومة والنظام والسلطة مفاهيم متداخلة ومتشابكة، لا بد أن تكون جهة ما مسؤولة عن هذا الالتباس بين هذه المصطلحات.

غداة الطائف دار نقاش غني حول هذه المفاهيم بين مجموعة من الباحثين في علم القانون، وتمت المقارنة مع المصطلحات الفرنسية، لأن الدستور والقوانين والمفاهيم والمصطلحات المعتمدة في لبنان إما أن تكون مشتقة أو مترجمة أو مستوحاة من تلك التي تقابلها في فرنسا، وقد أفضى النقاش إلى أن الالتباس موجود فحسب في لغتنا العربية، بل اللبنانية، لأن الفرنسية تميز بوضوح بين السلطة والدولة، أو بين المصطلحات Etat, pouvoir d’Etat, Autorites publiques, Autorite, .Regime, systeme, بيد أن الذي أطفأ النقاش هو الممارسة السياسية التي رسخت في الوعي الشعبي نوعا من التطابق بين مصطلحات في علم السياسة  ليست في الأصل متطابقة.

من الأمثلة العملية على هذا الالتباس نسبة المؤسسات الحكومية إلى الدولة لا إلى الحكومة، فيقال مثلاً كهرباء الدولة، ومدرسة الدولة ، وتلفون الدولة، حتى إذا حصلت معارضة لسياسة الحكومة في قضية الكهرباء قامت القيامة على الدولة لا على الحكومة أو على وزير الكهرباء( الموارد المائية والكهربائية)، وكذلك الأمر في كل الأمور المشابهة، وبات التهجم على الدولة ظاهرة مشروعة لا تنطوي على أي خطر، كما لو أنه تهجم على السلطة ( سلطة الدولة) أو على الحكومة التي تتولى إدارة شؤون الدولة والحكم. خلط مصطلحات جعل الحزب الشيوعي يقف، في أحد بيانات مكتبه السياسي، موقفاً عبثياً ضد الحكم والحكومة والنظام.

مصطلح الدولة يعني ارتباط فكرة الدولة ارتباطاً عضوياً بمصطلح الوطن. فهي التي تجسد سيادة الشعب على أرضه وعلى حدوده من خلال سيادة القانون، ولهذا يصبح المساس بها مساسأ بالوطن، ويتحول التعرض لها إلى تهديد للوحدة الوطنية، والذي يدفع ثمن اغتيالها هو الوطن، فانهيارها يعني انهياره وتفككها يعني تفككه وتدميرها يعني تدميره.فهل كان تكريس الالتباس بين المفاهيم مقصوداً عند أولئك الذين لا يؤمنون بلبنان وطناً نهائياً؟

لقد استندت الدولة الحديثة إلى القانون، وترافقت مع تطور الرأسمالية وصعود الطبقة البرجوازية، لكن المفاهيم تعددت. فهي تعني، في نظر البعض، الحكومة ، أي مجموعة القيادات الذين يناط بهم اتخاذ القرار ويتولون السلطة التنفيذية في النظام السياسي؛ كما تعني، في نظر آخرين، نظاماً  قانونياً وجهازاً بيروقراطياً وإدارياً، وفي نظر فريق ثالث، وهذا هو الصحيح، كياناً اعتبارياً، يمثل “مخلوقاً واحداً” ويعبر عن روح شعب واحد، ويجسد سيادة الشعب على حدود الوطن، ضد قوى خارج الحدود، وداخل حدود الوطن، ضد كل من ينتهك سيادة القانون.

هذه الدولة “النظرية” لم تصبح دولة “فعلية” في لبنان. ما كان يحول دون ذلك ، في نظر التحليل السياسي اليساري والعلماني هو مشكلة تتعلق بتركيبة النظام الطائفية. ظل يتكرر هذا الكلام منذ تأسيس الوطن اللبناني من دون توقف، وأفضى في لحظة انفجار الحرب الأهلية إلى اقتراح لأصلاح النظام عنوانه إلغاء الطائفية السياسية، طاشت رصاصاته في الفضاء، لأنه طرح حلا طائفياً للمسألة الطائفية، ولأنه كان يصوب على فراغ، ولأن الدستور اللبناني دستور علماني، والدولة ليست اسلامية ولا مسيحية، والتوزيع الطائفي للرئاسات ليس كافياً لجعل الدولة دولة دينية، بل هو صيغة مموهة لنظام المحاصصة، وهي ليست محاصصة بين الطوائف بل باسم الطوائف، أما التحليل الاقتصادي اليساري فرأى أن الدولة لم تتأسس في المجتمعات التي خضعت للاستعمار عن طريق برجوازية وطنية وإنما عن طريق برجوازية استعمارية أجنبية، ما جعلها في نظر اليسار، تفقد شرعيتها “التقدمية” و”الوطنية”

لم يصمد هذا التحليل أمام الوقائع والأحداث. لا التحليل السياسي ولا الاقتصادي، لا نظرية الطائفية ولا نظرية البرجوازية الوطنية. لأن مشكلة النظام اللبناني تقع في مكان آخر. مشكلته أنه  خليط من نظام الوراثة، وقد استمرت ماثلة فيه قيم الحضارة السابقة مجسدة بنظام العائلات الذي أطلق عليه إسم “الاقطاع السياسي”، ومن أنظمة حديثة قائمة على حكم الدستور والقانون، وقضت المساومة بين هذين النوعين من الأنظمة بأن تتحاصص العائلات الحكم ضمن ديكور من الديمقراطية والانتخابات، تجدد فيها لنفسها طبقة سياسية لا تنتمي إلى صفوف البرجوازية، بل تنوب عنها في إدارة شؤون “الدولة الرأسمالية”. ومن باب المحاصصة بالضبط انخرط اللبنانيون في الحرب الأهلية، بعضهم لتثبيت الحصص وآخرون لمعادلات تحاصصية جديدة، مع ما يتطلبه ذلك من استعانة بالخارج واستدراجه والتشريع له ليكون شريكاً في توزيع الحصص.

مع الشهابية تحسنت شروط المساومة بين دولة القانون ودولة الوراثة وتبلورت ملامح الدولة المأمولة ومقوماتها بوضوح أكبر ، فزاد منسوب الحداثة الذي يجعلها أكثر شبها بالدولة “النظرية” وأكثر تماثلا مع مواصفات دولة القانون والمؤسسات وتداول السلطة والكفاءة وتكافؤ الفرص والفصل بين السلطات.

النظام اللبناني، كما ينص الدستور، برلماني ديمقراطي، تقوم الدولة فيه على أساس الفصل بين السلطات. قبل الحرب كان رئيس الجمهورية يتمتع بصلاحيات واسعة تجعله يجمع السلطات ويلغي الفواصل بينها، فهو الذي يعين الحكومة وهو الذي يختار كبار المسؤولين في إدارات الدولة( قيادة الجيش وقيادة جهاز المخابرات وقيادة الأمن العام وحاكم البنك المركزي والمدير العام لوزارة المالية، وغيرها)، وهو الذي يشرف عبر الأجهزة الأمنية والعسكرية على الانتخابات النيابية فيؤمّن تشكيل الأغلبية المطواعة  في البرلمان.

هذه الآلية في إدارة شؤون الحكم التي تقوم على استئثار الرئيس بالصلاحيات واحتكاره دور السلطتين التنفيذية والتشريعية معاً تشكو من مرض، شخصه المعارضون بأنه نوع من الغبن في صلاحيات رئيس مجلس الوزراء ثم جعلوه غبناً يصيب الطائفة كلها، ورفع الغبن، بحسب هذا المنطق، يكون بتوزيع أكثر عدالة للصلاحيات بين الرئيسين ثم بين الطائفتين، وهذا ما فتح الباب أما رئيس مجلس النواب ليطالب هو الآخر بحصة له من الصلاحيات يصورها حصة للطائفة،  فتدرجت عملية الاصلاح نحو الأسوأ لتؤول إلى نظام بثلاثة رؤوس أو رؤساء.

غير أن واقع الأمر يشير إلى خلاصة مختلفة. ذلك أن رئيس الجمهورية قادر، حتى بصلاحيات محدودة(ما بعد الطائف) أن يمارس سلطته كاملة ويعطل الآليات الديمقراطية، أي أن “يعلق الدستور” على طريقة الانقلابات العسكرية، بحكم إمرته على القوات العسكرية ( ولاية الرئيس إميل لحود نموذجاً حين استقوى بالجيش السوري وحذا حذو النظام السوري في إدارة شؤون البلد)، كما أن رئيس مجلس الوزارء يستطيع ، حتى بصلاحيات محدودة(قبل الطائف) أن يعطل عمل الدولة إذا ما استخدم سلاحا من خارج الآليات الديمقراطية لعمل النظام(على غرار ما فعله الرئيس رشيد كرامي باعتكافه ورفضه تقديم استقالة الحكومة، مستقوياً على الدستور وعلى رئيس الجمهورية بقوة القضية القومية والمقاومة الفلسطينية واليسار اللبناني). المشكلة إذن تكمن في مخالفة الدستور، أي في القفز فوق الأسس الديمقراطية في إدارة النظام.

حين ينص الدستور على أن النظام اللبناني نظام برلماني ديمقراطي، فهذا يعني أن البرلمان هو الركن الأساس فيه وله السلطة الأولى في التشريع وفي مراقبة السلطة التنفيذية ومحاسبتها. والديمقراطية تعني اختيار الحاكم بالانتخاب الحر في صناديق الاقتراع. غير أن التطبيق العملي للدستور في مرحلة ما قبل الحرب كان ينتزع السلطة الأولى من يد البرلمان ويمنحها لرئيس الجمهورية الذي يحول الوزراء إلى حلقة وسيطة بين رئيس الجمهورية والجهاز الإداري للدولة الذي يرئسه في كل وزارة مدير عام من الموالين لرئيس الجمهورية. كما أن التطبيق العملي للديمقراطية لم يكن ينتظر الاقتراع لمعرفة النتيجة، المحددة سلفاً بالتزوير المكشوف أو المموه، أو  باختيار قانون انتخابي وآليات انتخابية ودوائر انتخابية على طريقة “قصقص ورق ساويهم ناس”، بحيث يضمن الحاكم( رئيس الجمهورية) وصول الأغلبية التي يريدها إلى سدة البرلمان.

 مشكلة النظام إذن ليست في طريقة توزيع الصلاحيات بل في طريقة استخدامها خلافاً للدستور وللآليات الديمقراطية، ذلك أنه ليست الطائفية السياسية التي صوب عليها اليسار، بل “المحاصصة”، بصفتها مساومة بين المتحاصصين على تأبيد السلطة وعدم تجديد الطبقة السياسية، وتواطؤاً بينهم على اقتسام النفوذ والسلطة والمال العام، هي التي تقف وراء أزمات النظام  وهي التي تسببت بالحرب الأهلية الأولى يوم كان التوزيع راجحاً لصالح المارونية السياسية أو الثانية يوم صار راجحاً لصالح السنية السياسية أو الثالثة حين عملت الشيعية السياسية على ترجيحه لصالحها. لذلك يمكن القول إن تناقضات عديدة داخلية وخارجية عصفت في بنية النظام اللبناني في العقد الذي سبق انفجار الحرب الأهلية، ووضعته أمام خيارين، إما تعديلات ديمقراطية على النظام إما الانفجار. ولم يكن ذلك حاجة لتنفيس احتقان داخلي فحسب، بل لمعالجة مفاعيل القضية القومية وتبعاتها على الوضع اللبناني أيضاً.

المصدر :

https://www.almodon.com/opinion/2016/4/23/%D9%81%D9%8A-%D9%86%D9%82%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%87%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9