28-11-2015
للربيع العربي قراءات متعددة. قراءة اقتصادية من أبرز رموزها سمير أمين، فضلا عن اليساريين عموماً والشيوعيين خصوصاً، حكمت عليه بمقاييس الصراع الاقتصادي والتفاوت الاجتماعي. قراءة ثقافية من أبرز رموزها أدونيس، كانت تعول على ثورة في الوعي. القراءات الدينية ظلت أسيرة مفاهيم ومصلطلحات سابقة على الثورة الحديثة المعرفية والفلسفية والعلمية. أما نحن فقد اخترنا قراءة سياسية وتوصلنا إلى خلاصات مختلفة، أدرجناها في كتاب يحمل العنوان ذاته ويجيب على السؤال بنعم ، هي ثورة، وهذه مقاطع من مقدمته.
الفرضية التي يبنى عليها هذا الكتاب تقوم، في شقها الأول، على أن ما حصل ويحصل في العالم العربي، والذي قد يستمر حصوله لسنوات طويلة، هو ثورة، بل هي الأولى، بالمعنى الدقيق للكلمة، بعد ثورة محمد نبي المسلمين التي نشر فيها دعوته. كل ما عدا ذلك لم يكن سوى انتفاضات أو حركات تمرد أو حركات مطالبة بالسلطة، كثورة الزنج أو البابكية أو القرامطة، أو انقلابات في العصر الحديث بقيادة أصوليات يسارية أو قومية أو دينية، من سعد زغلول إلى عبد الناصر في مصر وأديب الشيشكلي وضباط حزب البعث في سوريا والعراق ومن جعفر النميري إلى عمر البشير في السودان، لا تعدو كونها تغييرات جزئية وموضعية، سلبية أحياناً وإيجابية أحياناً، من داخل المنظومة الحضارية والسلطوية ذاتها.
كنت توقعت أن تفضي مخاضات الأمة وقضاياها القومية إلى مثل هذه الثورة. ولم يكن ذلك من قبيل التنجيم، بل انبنى لبنة لبنة، على الصعيد النظري، خلال ما يزيد على عقدين من التعليم الجامعي كنت أبحث فيها في السؤال النهضوي الذي طرحه شكيب ارسلان، لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟ وكنت أعالج الإجابات الممتدة من أول حركة سلفية في العالم العربي، الوهابية، حتى آخرها، حزب الله اللبناني وداعش السوري العراقي، مرورا بسائر الحركات والشخصيات الاصلاحية، المهدية ، السنوسية ، الكاشانية، الخ. الأفغاني ، محمد عبده ، رشيد رضا، الكواكبي، طه حسين، شبلي الشميل، سلامة موسى،الخ. وصولاً إلى الاحزاب السياسية، من حزب الوفد المصري إلى سائر الأحزاب القومية والشيوعية وأحزاب الاسلام السياسي في العالمين العربي والاسلامي. وقد استنتجت أن ما يجمع بين أحزاب الأمة من نقاط التشابه أكثر مما يفرقها ويفجر الحروب بينها، فهي أغصان من شجرة الاستبداد ذاته، وهي نسخ متعددة من الأصوليات التي تبحث عن الحلول في النصوص المقدسة وفي بطون الكتب، وهي معادية للديمقراطية وترى في الآخر، أياً يكن هذا الآخر، عدواً لها، ويزعم كل منها أن في بنية قياداتها وإيديولوجياتها وبرامجها “قداسة” ما، تمنحها نوعا من العصمة وتحميها من الزلل، وتجعلها كلها كأنها “أحزاب الله”
وتقوم الفرضية، في شقها الثاني، على أن الثورة لا تكتمل إلا إذا ترافقت أو تتوجت بثورة سياسية، على هذا الأساس تسقط من التصنيف كل محاولات النهوض الاقتصادي والثقافي، مهما بلغت درجة نجاحها، إن لم يكن النهوض مصاناً بثورة في المجال السياسي قادرة على حماية الانجازات في سائر المجالات.
ليس هذا مصادرة على المطلوب، بل هو مستخلص من تجربة الانتقال إلى الحضارة الرأسمالية في أوروبا. لقد انطلقت الثورة العلمية في كل أنحاء أوروبا، والثورة الاقتصادية بدأت في أنكلترا والبلدان المنخفضة، ومع ذلك فقد حظيت فرنسا بفضل السبق فاستحقت الحصول وحدها على شرف التسمية لأنها قدمت، على الصعيد السياسي، النموذج الجديد لنظام الحكم في الحضارة الرأسمالية وأمنت الحماية لمنجزات الثورات الثقافية والاقتصادية في سائر أنحاء أوروبا.
الدليل الثاني أوروبي هو الآخر. ذلك أن حركة الاصلاح الديني نجحت في الشمال الأوروبي بفضل الحماية السياسية التي وفرها الأمراء للحركة اللوثرية في ألمانيا والبلدان المنخفضة، وفشلت في جنوبه لأنه كان عليها أن تواجه الكنيسة والحكام معاً. أما في بريطانيا فقد كان نهوض الكنيسة الأنكليكانية (البروتستانية ) رهناً بتوفير غطاء ملكي أجاز لها التوسع والانتشار، حتى إذا رفع هذا الغطاء عنها تراجعت وانهارت وتعرض أتباعها للتنكيل وهاجروا وشكلوا، مع آخرين من شمال أوروبا، النواة الأولى للولايات المتحدة الأميركية التي حملت، في البداية، اسم انكلترا الجديدة، وكانوا جميعاً من أتباع الديانة البروتستانتية، من الناجين من الحروب الدينية في أوروبا.
مقالات ذات صلة
حراك “أبو رخوصة” وحيتان المال
ثقافة الميليشيا
المال الحرام