3 ديسمبر، 2024

أميركا : مشاهدات يساري لبناني

محمد علي مقلد                                                                     29-4-2013

هل تصح مقارنة لبنان بأميركا ؟ لبنان عندي أغلى منها ، رغم أن السفر إليها يفضح هشاشة انتماء العربي إلى أي وطن من أوطان الأمة ، أو ربما لأن تاريخ العلاقات معها مكتوب، من جانبنا، بالحبر اليساري المعادي ، ومن جانبها ، بالموقف المنحاز للمشروع الصهيوني والمشحون بالتحدي لشعوب الأمة العربية.

يبدأ تعصبنا ضدها من زعمنا أن لبلداننا تاريخا تكدست فيه إنجازات حضارات شتى منذ الفينيقيين ، وربما قبلهم ، بينما حرمت الأقدار هذه القارة من نعمة التاريخ والحضارات القديمة. أميركا بلاد بدأ تاريخها المكتوب مع اكتشافها ، أي في بداية القرن السادس عشر. ميلادها هو ميلاد الحضارة الرأسمالية. ليس فيها آثار كالأهرامات أو الأعمدة الضخمة ،ولا مرت عليها حضارات الرومان واليونان والفرس وبابل ، وليس فيها مدن تاريخية كسامراء أو دمشق أو جبيل ،  ولا فيها كاتدرائيات كتلك المنتشرة في أنحاء القارة الأوروبية ، ولا معابد كتلك الموجودة في بلاد الشرق البعيدة.

مع ذلك ، التعصب للوطن لا يخفي بعض الحقائق المرة . يمكن القول إن ولادتها كانت ولادة قيصرية، لكنها في الفترة القصيرة من حياتها تحولت إلى دولة امبريالية تحكم العالم ، فيما يتقلص تاريخنا ، يوما فيوما ، ويمضي القهقرى .

  أميركا تشبهنا ، هي بنت الاستعمار، وهي بنت الثورة على الاستعمار . دفعت ثمن استقلالها غاليا لكنها حفظت جميل من بنوها حتى وهي تناصبهم العداء ، ربما لأنها فهمت معنى العلاقات بين الدول وبين الحضارات على غير ما فهمناه. للدول مصالح ، وهي تنافست وأفنت بعضها بعضا في سبيل ذلك ، لكن الدول التي نشأت في ظل هذه الحضارة اقتنعت أخيرا ، وإن كان ذلك بكلفة عالية ،  باحتمال التنافس السلمي بدل العنف والحروب . وإذا صح أن الحاكم في الدول الامبريالية ، ولا سيما في أميركا ، ” يتآمر” ( بحسب مصطلحاتنا القومية واليسارية) على الدول والشعوب الأخرى ، فالحكام في بلادنا يتآمرون على شعوبهم وأوطانهم. ولست أدري أي المتآمرين أفضل من سواه !

حين تطأ قدماك أرض الولايات المتحدة تدرك أن ما يسمى في بلادنا الامبريالية أو الشيطان الأكبر قد يكون النظام السياسي والمصلحة القومية العليا . ولا تجيز لنفسك أن تنعت بالامبريالي شعبا لا يسعى إلى غير سلامه الداخلي وحريته ، شعبا هو خليط فريد من كل شعوب الأرض وألوانهم وأجناسهم وأعراقهم وحضاراتهم ، فتعجب من أنظمة في بلادنا لا تحسن تدبير شؤون حياتنا ، ونحن لا نوازي في تعدادنا أو في تعداد اختلافاتنا وتنوعنا ، ما هو موجود في أصغر مدينة من المدن الأميركية . ونعجب من أمر من يشتمون الامبريالية ونظامها ويستميتون للحصول على بطاقة الجنسية والإقامة فيها.

يشعرك تمثال الحرية في أميركا أنها بلد الحرية حقا . أنت حر في أن تثرى ثراء فاحشا ، أو في أن تموت متسكعا في فناء المباني أو الممرات . لاس فيغاس نموذج صارخ لتلك الحرية المنفلتة من عقالها ، مدينة الضوء والضوضاء ، تشاهدها من الطوابق العليا في الفنادق ، مشعة في الليل ، محاطة بالجبال ، مثل صنعاء اليمن . في اليمن القات وفيها الكازينوهات ، وإدمان في الحالتين. في الليل كما في النهار ، ملايين البشر ينفقون مئات الملايين من الدولارات ويقامرون بالوقت . أنت حر أن تفعل ما تشاء دون أن تؤذي سواك . أنت حر في ألا تنفق أموالك على اليتامى وأبناء السبيل، وحر في أن تجنيها بحلال القانون .

بين صنعاء ولاس فيغاس ، والقات والكازينوهات ، بين الضوء الامبريالي وعتمة بيروت ، تحتار كيف يمكن أن تشهد لصالح الإمبريالية وتبقى مواطنا صالحا في بلدك . ثقافتنا القومية واليسارية حالت بيننا وبين معرفة أصول التنافس أو الصراع أو المهادنة .

لم يفت الأوان بعد . آن ليساري لبناني مثلي أن يعترف بهزيمة مشروعه . مازالت الفرصة متاحة أمامنا لنتعلم من ” عدونا ” كيف يمكن أن تنصهر كل التنوعات في ظل القانون ، وكيف يمكن أن يتحول البشر من رعايا إلى مواطنين ، يؤمنون بما شاؤوا ، لكن، يلتزمون بالقانون ويعيشون تحت سقفه.

آن لنا أن نتعلم كيف نبين أوطاننا ، لا كيف نسارع إلى هجرها كلما ابتكر الحاكم فيها فنون الخيانة والاستبداد.