محمد علي مقلد 6-2-2015
قيل كل شيء عن العنف في الاسلام. لم تبدأ الكتابة عن الموضوع مع ظهور داعش وإعلان دولة الخلافة، ولا مع الحادي عشر من أيلول، ولا مع الانقلاب الخميني على سلطة الشاه، ولا تعقيبا على كل حوادث القتل والذبح والإبادة من مصر إلى أفغانستان إلى الجزائر إلى بوكو حرام في نيجيريا إلى مقتلة شارلي إبدو إلى ذبح اليابانيين وحرق الطيار الأردني.
قيل كل شيء عن تاريخ التعذيب في الاسلام، من المعارك الأولى لنشر الدعوة إلى حرب “التكفيريين” والحرب عليهم ، مرورا بكل حوادث القتل التي لم يسلم منها ثلاثة من الخلفاء الراشدين، وبكل عمليات ومحاولات الاغتيال والتسميم التي تعرض لها من راح ضحيتها أو من نجا من الأمراء والسلاطين والخلفاء ومن رواد الاصلاح الديني.
قيل كل شيء، وثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الذين يضبطون اليوم بالجرم المشهود من مشرق الأرض إلى مغربها كلهم ينتمون إلى الاسلام ويدّعون الدفاع عن الدين وعن رموزه. لدى السنة، تبرأ رجال دين وحكومات ومؤسسات دينية من أفعالهم الوحشية وبرأوا الاسلام منها، وعلى جبهة الشيعة حشدت إيران والأحزاب والقوى الدائرة في فلكها وسائر المرجعيات كل طاقاتها في مواجهة التكفيريين؛ وأخيرا أطلق الأزهر الشريف حكمه في الارهابيين الاسلاميين واعتبرهم كفارا وأباح دمهم صلبا أو حرقا أو بقطع الأيدي والأرجل ( كما ورد في النص القرآني) مؤكدا، في فتواه، باليقين القاطع، أن تلك الأفعال الاجرامية الارهابية تستند إلى نصوص لا يرقى إلى وضوحها شك.
بعد الكلام المنسوب إلى الأزهر لم يبق سر مستورا، وانكشف الأساس النظري الذي ينبت منه العنف ويتغذى. كما لم يعد جائزا البحث عن حل المعضلة الاسلامية بالطرق التقليدية التي سبق اختبارها وفشلها. فلا العلمنة على الطريقة الفرنسية المتشددة ولا على الطريقة الأميركية المتسامحة ولا إقرار الزواج المدني ولا إصلاح التعليم الديني ولا الكتاب الديني الموحد ولا الحوار الإسلامي المسيحي ولا الشراكة ولا الكلام المعسول عن أرض الديانات السماوية.
لقد غدا كل إصلاح مستحيلا بعد أن بلغ مستوى الشحن الديني والمذهبي الذرى، وتعطلت لغة الاعتدال، وباتت مصطلحات الحرب متداولة على كل لسان، وأبيحت تهمة الخروج عن الدين واستحضر الرمي بالحرم وانبعثت أساليب السحل والمحل والصلب والحرق وإقامة الحد والذبح، وتبادل الجميع تهمة التكفير وتقاذفوا حمم الجهالة وعمموها، فتناوب على الفقه وإصدار الفتاوى كل من عمل في الحقل الديني، من المعممين وخادمي المساجد والمؤذنين وقراء العزاء، واختلط حابل الجهل بنابل العنف حتى لم يبق حجر على حجر من قيم الدين السمحاء. حتى الكنيسة في لبنان تراجعت عن مواقفها وصار أكبر الأمور شأنا، كرئاسة الجمهورية، وأصغرها، كمكب النفايات والحوض الرابع في مرفأ بيروت وموظفي الكازينو، شأنا لاهوتيا يجتمع الاكليروس لفض التباساته ووضع حلوله.
ربما يكون كل هذا الانحدار مؤشرا على ولادة جديد ما. لكنه لن يولد وحده من رحم الأزمة بل هو يحتاج إلى مبادرة من أحد، من فقيه أو رئيس أو مجتهد أو قائد سياسي أو وزير أو نائب أو مثقف عضوي، أو من كل هؤلاء، ليجتمعوا بحثا عن حل، وبانتظار ذلك، لا بد من اتخاذ إجراء يوقف سيول الأذية التي تجرف الصالح والطالح. لا بد من “تعليق الدين”، إلى أن تعاد أمور التشريع وتستقيم علاقة الكهنوت المسيحي والاسلامي بالدولة والقوانين.
“تعليق الدين” مصطلح لفتني فاقتبسته من أحد الأصدقاء، وأقترح لتنفيذه عقد مؤتمر عام يدعو إليه وزير أو لجنة وزارية من المعنيين ، ويحضره رؤساء الطوائف و رجال دين وعلمانيون وباحثون ومثقفون ليناقش على جدول عمله نقطة واحدة هي رسم حدود واضحة لعلاقة المؤسسة الدينية بالشأن العام، أي بمؤسسات الدولة، لعله يوفر الظرف المناسب، بعيداً من أية ضغوط معنوية أو نفسية، بحثاً عن حل يحمي قداسة النص الديني من دنيوية المصالح السياسية، وينقل الأديان إلى الحداثة، ويمكّنها من توظيف مناهج العلوم الوضعية والاكتشافات في صالح اجتهادات وتفسيرات تدين القتل وتدعو إلى قبول الآخر. ربما تشكل تجربة تونس، أو سواها من التجارب المعاصرة كماليزيا مثلا أو الهند، نموذجا ناجحا لرسم خطوط التماس بين الشأنين الديني والسياسي.
في تجربة تونس، كما في تجربة الغرب الأوروبي، لا خوف على الدين. فهو موجود في الثقافة والعادات والتقاليد والطقوس اليومية والاسبوعية، في الزواج والوفاة والصلوات الجماعية ، ويحظى بحماية القانون، وينحصر دوره في تنظيم العلاقة بين المؤمن وربه ، أما علاقة المواطن بالمواطن و بالنظام العام فهي شأن تحكمه الدساتير والقوانين المرعية وتشرف عليه الدولة.
“تعليق الدين” ليس سوى دعوة لتعليق أحكام القتل والذبح والإبادة الجماعية. الكنسية أرغمت على تعليق محاكم التفتيش في القرون الوسطى، واليوم لا بد من إرغام جماعات الاسلام السياسي التي تمارس الارهاب والعنف والقتل العبثي والمجاني ، بموجب فتاوى يصدرها أمراء وسلاطين ودعاة في أماكن انتشار الديانة الاسلامية، من تعليق العمل بتلك الفتاوى وحظر إصدارها، وإخضاع المعممين لدورات تثقيف ديني بإشراف الفقهاء وأهل العلم.
إن الاحجام عن تنفيذ هذه المبادرة هو بمثابة تبرير للعنف وشراكة في ارتكابه.
مقالات ذات صلة
حراك “أبو رخوصة” وحيتان المال
ثقافة الميليشيا
المال الحرام