25 أبريل، 2024

عن التسعيني الشاب

 13-1-2014

لست أعلم ما الذي حدا بغسان الرفاعي ألا يذكر في الكتاب اسم من يساجله، مع أن المساجلة امتدت على مساحة الكتاب كله. فمنذ ثلاثة أعوام أصدر الدكتور فالح عبد الجبار كتابه عن ” ما بعد ماركس ” ، وهو عبارة عن مجموعة دراسات يجمع بين فصولها الخيط الماركسي . منذ ثلاثة أشهر نشرت الدار ذاتها ( الفارابي) نصا لغسان الرفاعي فيه نقد لهذا الكتاب ، يحمل عنوانا هجوميا :” ماركس ، دون دوغمائية ودون تفريط” ، حاول فيه أن ينتشل ماركس من خطر النقد “الجباري” المتهم بالتفريط بالماركسية ، ومن خطر الجمود العقائدي .

غسان الرفاعي اللبناني منذ سبعين عاما والشيوعي قبل انتقاله من العراق إلى لبنان في  منتصف أربعينات القرن الماضي ، استفزته أقوال فالح وأحكامه عن الماركسية ، مع أن صاحبها قد انجز منذ وقت ليس ببعيد أحدث ترجمات كتاب “رأس المال” المنشورة في دار الفارابي .

يتمثل ” التفريط ” بأصل النظرية ، برأي غسان ، بنوع من التشكيك يدفعه فالح إلى  حد القول عنها إنها ” تمثلات للواقع كانت ناقصة أصلاً”،أو إنها تنتمي إلى ” الثنائيات المبسطة ” أو إلى        “السرديات الكبرى التي باتت موضع ارتياب ، بل رفض “، كما أن هذا التشكيك حمله على تشبيهها بالأطلال ، فسخر من المتمسكين بها سخرية  أبي نواس ممن  وقف “على رسم درس”، الخ . كذلك أخذ عليه التشوش في استخدام المصطلحات المتعلقة بالمادية التاريخية والمادية الديالكتيكية ، وبالوقوع في أوهام نهاية التاريخ الفوكويامية ، الخ.

بعيدا عن نقاش الكتابين الهامين يستوقفنا في كتاب غسان إصراره الدائم على التخفي ، أي على تلبس صورة الجندي المجهول . أول كتاب وضعه حمل توقيع يساري لبناني ، وكان بعنوان ، اليسار الحقيقي واليسار المغامر. وفي مجلة الطريق كان يكتب باسم ابراهيم مصطفى . كان ذلك مفهوما في المراحل الأولى من حياته الحزبية في لبنان حيث لم يكن يملك جواز سفر عراقي ولا هوية لبنانية . ربما عودته تلك الظروف أن يناضل من خلف الستارة ، لكنه هذه المرة ، بعد أن صار معروفا باسمه الحقيقي أو المستعار، أخفى اسم من ساجله ، مع أن كشفه أمام القارئ ليس بالأمر العصي على أحد ، ولاسيما أن الكتابين صدرا عن الدار ذاتها ، وأن الكاتبين يعرف الواحد منهما الآخر وأن كلا منهما يتابع ما يكتبه الآخر ، فلم يكن ضروريا أن يتفادى غسان تسمية  مساجله ، وأن يكتفي  بالتلميح إليه بنعوت وأوصاف علمية وأكاديمية شتى: “أحد الباحثين  الذي نجل ونحترم”، و ” باحثنا الكريم” و”رفيقنا الباحث”، ” زميلنا الباحث” ، الخ .

يستوقفنا ثانيا أن غسان ،وهو في العقد التاسع من العمر ، أعاد النقاش والسجال إلى شبابه الأول ، بعد أن طوت هزائمنا الثلاث كل النقاش الفكري اليساري والقومي والاشتراكي . أي أن انهيار المعسكرالاشتراكي وحركة التحرر الوطني العربية والحركة الوطنية اللبنانية مع بداية التسعينات من القرن الماضي أدى إلى تقلص مساحة البحث في الشؤون الماركسية وتضاؤل عدد الدراسات المتعلقة بها ، ليتسع المجال أمام أخرى متعلقة بالدين والأصوليات الدينية .

يأخذنا كتاب غسان إلى عوالم ومصطلحات وكتاب وفلاسفة دفعتهم موجات الاسلام السياسي إلى مقام ثانوي .مادية تاريخية ، مادية جدلية ، هيغل ، ماركس ، فيورباخ ، علم المعرفة ، الابستيمولوجيا ، المنهج ، الوعي ، العلم ، قوانين الطبيعة ، البنية الفوقية والبنية التحتية ، داروين ، نظام الإشارات والرموز ، إنغلز ، كارل بوير، ريمون آرون ،غاليسو ، هوبسون ، بوخارين ، آليات الانتاج الرأسمالي ، العولمة ، مهدي عامل ، سمير أمين ، الخ ألخ . في حين مالت مصطلحات  النشر عموما في العقود الثلاثة الماضية باتجاه لغة الطوائف والمذاهب والعصمة وولاية الفقيه والتكليف الشرعي والاسلام هو الحل.

ويستوقفنا ثالثا أن غسان أراد أن يكون كتابه محاولة لأعادة التوازن لمن اختل توازنهم الفكري والسياسي بعيد سقوط التجربة الاشتراكية ، داعيا إياهم إلى قراءة تلك التجربة قراءة نقدية وإلى عدم الاستعجال  في التبرؤ من أعباء تلك المرحلة ،  وإلى الخروج من ثنائية الخير والشر في النظر إليها نظرة ينطبق عليها قول عباس بيضون في يومياته عن السجن ( نطمر فضلاتنا كأنها فضيحتنا، ننبش فضلاتنا كأنها سرنا ). فلا هي فضيحة ولا هي سر . إنها تجربة غنية فيها مآثر كما فيها عيوب . المآثر لإعادة الاعتبار والعيوب لنتفاداها ، وذلك من أجل استئناف مسيرة التغيير الثوري نحو ما بعد الرأسمالية وليس نحو ما بعد الماركسية .

ويستوقفنا أخيرا ، أن مفكرا كبيرا يشارف على التسعين ، مازال في ذروة شبابه الذهني يتحلى بالجرأة والاقدام على النقد والتجديد ،  لم تتحمل علمه ولا ثقافته مجموعة من رويبضة القيادة الحزببة ، لا يعرف المجتمع عن جهلم ولا عن علمهم شيئا لأنهم لا يكتبون ، فحملهم الجمود العقائدي على جعل الماركسية دينا ، فأقفلوا باب الاجتهاد فيها ، حتى صار من الطبيعي والمنطقي أن يخرجوا غسان من صفوفهم. وأنسجاما مع دوغمائيتهم الجاهلة ، وتطبيقا للقول ، ان الطيور على أشكالها تقع ، انخرطوا في جبهة الأحزاب الدينية الأصولية المدافعة عن الاستبداد ضد الحرية .