22 نوفمبر، 2024

لولا الملامة ..يا هوى أميركا

15-8-2014

أميركا  “المالئ الدنيا وشاغل الناس” ، بين من ينتظر مساعدتها ومن يتعقب أخطاءها ومن يطلب ودها في السر ويشتمها في العلن ومن يدين سلوكها حيال القضايا العربية من نكبة فلسطين حتى ربيع “بوعزيزي”، ومن يستجير بها من استبداد مؤبد في بلادنا ، ومن يريد الاستقواء بها من دون مقابل ، ومن يرى فيها شرا لا بد منه ، الخ ، الخ . شبكة معقدة من العلاقات والمواقف يدخل حابلها بنابلها و تبدو كأنها غير متناسقة وخالية من أي منطق .

في بداية الربيع العربي بدا الموقف الأميركي مرتبكا بفعل المفاجأة ، إذ لم يكن ما حصل في تونس وبعدها في مصر في حسبانهم. ثم تأكد ارتباكهم حين رحبوا بمجيء الاسلاميين إلى الحكم ، وحين حصروا تدخلهم في ليبيا في نطاق ضيق جدا وغير مباشر ، ثم حين حل الجيش محل الإخوان . مع أن هذه الأحداث أربكت مواقفهم فقد كانوا مطالبين بتقديم الدعم لحركة التغيير الديمقراطي.

لم يكن الارتباك حالة أصابتهم وحدهم، بل أصيب معهم تيار الممانعة بقيادة النظام السوري. ذلك أن هوية الربيع لم تكن واضحة في البداية، وتوسمت الحركة القومية واليسارية خيرا في انتفاضتي تونس ومصر، واغتبط الرئيس بشار الأسد وظن نفسه ونظامه في منأى عن حركة الشارع المطالبة بإسقاط النظام، أو ظن أنها تستهدف الأنظمة “الاستسلامية” دون تلك التي تعتمد نهج الممانعة، الاسم المستعار للاستسلام المؤجل.

أخذت تتوضح شيئا فشيئا أهداف الربيع المتمحورة حول فكرة الديمقراطية ومحاربة الاستبداد وإسقاط أنظمة الجمهوريات الوراثية، ويتوضح بالتوازي موقف أميركي متضامن، لكن بحذر، مع موجة الربيع التي بلغت ربوع الشام ، وأشعلت النار في ثوب النظام البعثي الذي تحصن وراء بقايا محنّطة من الحركة القومية واليسارية المحلية والعالمية ، وقاد أوركسترا لم تجد برنامجا لها غير التشنيع على الديمقراطية وشتم دعاتها والمروجين لها ومموليها ومؤيديها، فنالت الولايات المتحدة الأميركية القسط الأكبر من الشتائم ، وقسما كبيرا من الملامة على عدم انخراطها الجدي في مساعدة الثورة السورية، وعلى ممالأتها النظام وسعيها إلى إطالة عمره استجابة لرغبة اسرائيلية، وعلى تراجعها عن قرارها بتوجيه ضربات جوية ضد جيش الأسد، مكتفية  بتدمير ترسانة سلاحه الكيميائي .

ظل الموقف الأميركي بليدا حتى بعد رجحان كفة التيارات الأصولية أو بحجة ذلك ، ولم تُجده خشيته إلا الوقوع ضحية المفاجأة بإعلان دولة الخلافة الاسلامية وتنصيب خليفة على مساحة من الأرض شاسعة بين باديتي الشام و العراق، حتى أنه لم ينج من تهمة المساعدة على قيام هذا التيار السلفي الأصولي، وهي تهمة طالت الجميع ، الخليج العربي وإيران والنظامين العراقي والسوري ، في معمعمة من التحليلات المتضاربة التي لا تستقيم مع أي منطق. لكن غبار المواقف انجلى عن قرار أميركي بمواجهة خجولة للتمدد الأصولي وبالمساعدة على وضع حد له.

أميركا الأمبريالية، رأس النظام العالمي الاستعماري، قائد عمليات النهب المنظم لخيرات الأرض، وكل ما قيل وما يمكن أن يقال فيها،  هل يمكن أن تكون هي المنقذ ! قيل إنها هي التي أنقذت الكويت من سطوة صدام حسين ثم أنقذت العراق من استبداده ، وها هي اليوم تخوض حربها الثالثة هناك، بحسب تعبير ساطع نور الدين. لكنها هي ذاتها كانت قد سلمت السلطة للأصوليات ، وهي التي تواطأت مع النظام الإيراني على تعيين المالكي ثم على سحب التغطية عنه. كيف تكون مع الأصولية وضدها، وكيف تكون مع الديمقراطية ولا تعتمد الآليات المناسبة لتطبيق الديمقراطية، وكيف تكون مع حكم الإخوان في مصر ثم ضده ، وضد النظام الإيراني وتنسق معه إلى حد إغضاب حليف أساسي لها في المنطقة، المملكة العربية السعودية ؟ في غمرة هذه المواقف المتناقضة، هل يمكن أن تكون منقذا؟

الذين يروجون لعداوة أميركا هم أصحاب البراميل المتفجرة على رؤوس الشعب، وأصحاب السلاح الكيماوي البعثي في سوريا والعراق ، والاشتراكيون الذين لم يروا إلا وجه الرأسمالية البشع ، والقوميون الذين تجمدت ذاكرتهم عند مرحلة استعمارية من تاريخنا الحديث، والأصوليون الذين يعشش الجهل في رؤوسهم .

أميركا ليست عدوا ولا صديقا. هي دولة عظمى يعرف حكامها كيف يدافعون عن مصالحها، أما نحن فحكامنا مشغولون بتنظيم حروبنا الأهلية. مع أنها الحليف الدائم للدولة الصهيونية ، إلا أنها حليف محتمل لسواها ، فهي لم تجد حرجا في احتضان الاسلام السياسي ومساعدته في مواجهة المد الشيوعي ، ولا في تشجيع العراق على شن حربه ضد إيران، ومساعدة إيران للنهوض من كبوتها العسكرية أمام العراق ، ولا في تقديم كل الدعم لوصاية سورية على لبنان عملت على تدميره شعبا ودولة وكيانا، الخ ، الخ .

لم تعد مقنعة أساليب التهويل والتخويف من الرأسمالية والاستعمار والامبريالية، لأن هذه قد تكون مخاطر محتملة وقد لا تكون، ولا هي مقنعة نظرية المؤامرة وتحميل الآخرين وزر ما يصنعه التخلف السياسي في بلادنا. الماثل أمامنا اليوم هو خطر البراميل المتفجرة والسواطير والعقول المتعفنة وعودة شريعة الغاب ولغة السحل والمحق والسمل والإبادة والتصفيات الجماعية الدينية والاتنية. هذا الخطر هو العدو حتى لو كان عربياً . والصديق هو من يساعدنا على درئه ، حتى لو كان أجنبياً.