30 كانون الأول 2023
https://www.nidaalwatan.com/article/239108
في اليوم الأول من حرب تشرين 1973 التقينا بمهدي عامل ولم يكن على علم بانفجارها. أخبرناه بما سمعنا من الراديوهات عن الإنجازات الأولى للجيش المصري. زمّ شفتيه ولم يصدق قائلاً، حتى لو حصل إنجاز عسكري فما بهذا العقل السياسي سينتصر العرب على إسرائيل، وما علينا سوى الانتظار.
لم تدم فرحة العبور البطولي لقناة السويس طويلاً ليتبين لاحقاً أنّ المعركة محدودة الأهداف وأنّ الغاية منها ليست تحرير فلسطين ولا حتى تحرير سيناء بالقوة، بل فتح باب للمفاوضات المباشرة والتمهيد لزيارة إسرائيل وعقد معاهدة الصلح معها. بعد توقف المعارك نشبت مواجهة بين العقل العسكري المنتصر والعقل السياسي المساوم تكشفت تداعياتها تباعاً في سجال علني انتهى بسجن بطل العبور سعد الدين الشاذلي.
التمرين الذهني ذاته، على طريقة مهدي عامل، طرح التساؤل عما بعد عبور «حماس» البطولي أيضاً إلى داخل غلاف غزة. ولئن كنا لا نتمنى حصول مواجهة بين العقلين في فلسطين، إلا أنّ المقارنة بين العبورين تكشف عن أعطال في البرامج السياسية المعدة لمعالجة الشقاء العربي عموماً والفلسطيني على وجه الخصوص.
نجح السادات في إخفاء سره السياسي عن جيشه وفي إخفائه عن عدوه أيضاً، وهذا هو الأهم، أما «حماس» فلم تنتبه إلى أن ما تضمره ليس سراً بعد أن فضحته تجارب الإسلام السياسي في أفغانستان وإيران والسودان والصومال ودولة داعش، فضلاً عن أعمال العنف الإرهابي في مدن وشوارع أوروبا. هذا السر المكشوف، هو الذي جعل الرأي العام العالمي يتأخر في إعلان تضامنه مع الشعب الفلسطيني لا مع «حماس» إلى ما بعد ارتكاب إسرائيل المجازر وجرائم الإبادة.
التمرين الذهني ذاته يطرح السؤال على اليسار العربي. جوابه أنّ سبب الشقاء يكمن في التبعية الاقتصادية. الحل بحسب برامج الأحزاب الشيوعية هو بالتحرر من هذه التبعية أو الانفكاك عنها، «فك التبعية». مهدي عامل عرض النسخة النظرية من هذا البرنامج في كتابه «نمط الإنتاج الكولونيالي» ثم في كتاب «أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية».
أطروحة المفكر الشيوعي المصري سمير أمين للعلاج تقضي ببناء «اقتصاد متمحور على الذات»، وقد ضمنها في كتاب يحمل عنوان «التطور اللامتكافئ» وفيه عرض لنظرية «المركز والأطراف»، التي تلتقي مع نظرية التبعية على ضرورة استقلال الأطراف التابعة عن مركز الرأسمالية المهيمن. وبحسب النظريتين لا يكتمل العلاج إلا في الأفق الاشتراكي.
انطلاقاً من هذا العلاج بنسختيه النظريتين لم ينخرط اليسار الشيوعي مع الثورة في مصر وخاض بعضه الحرب ضدها في سوريا، بحجة أن قيادة الثورة غير مؤهلة لإدارة دفة السفينة لترسو على شاطئ الاشتراكية، وبلغ به الأمر حد التحالف مع الإسلام السياسي ومع بقايا الحركة القومية المنضوية في جبهة الممانعة، بدعوى تطابق مواقفهم ضد العدو المتمثل بـ»الاستعمار والإمبريالية والصهيونية».
فريق آخر من هذا اليسار، من موقع علماني مزعوم، ارتبك موقفه من المؤسسات والأحزاب الدينية، فاقترب من بعضها وتواجه مع أخرى، ليلتقي مع من يبحثون عن أسباب الشقاء في التراث لا في الواقع الراهن، ويحذون حذو الشاعر أدونيس في عدم ثقته بثورة تخرج من المساجد، وذلك لأنهم يعتمدون في تشخيصهم على معيار ثقافي.
قد يكون الاقتصاد أو الثقافة أحد معايير البحث عن أسباب الشقاء. لكن الاشتراكية لم تعد، حتى إشعار آخر، حلاً مقنعاً، لا ولا علمانية أحزاب الاستبداد. المعيار الأساس لقياس التقدم والتخلف معيار سياسي أرسته الثورة الفرنسية وخلاصته، الحل بالدولة، دولة الحق والقانون والمؤسسات.
مقالات ذات صلة
مقالة الوداع
تهافت خطاب “الشيعية السياسية”
قمة التطبيع