30-4-2016
من المسؤول عن تفجير الحرب الأهلية اللبنانية؟ للأسف، لم يعترف أحد بمسؤوليته عما جرى، بل على العكس، حتى أن التنصل منها بلغ حده بالقول إنها حروب الآخرين على أرضنا. ولئن كان ذلك صحيحا، إلا أن الآخرين تقاتلوا بالواسطة وجعلوا اللبنانيين أدواتهم في الحرب. ولهذا يمكن القول إن اللبنانيين هم المسؤولون بالدرجة الأولى عن تفجير الحرب الأهلية.
مسؤولية الطبقة السياسية الحاكمة تكمن في رفضها الاصلاح أو في عجزها عن القيام به ، وكان ذلك بمثابة تسليم منها بخيار اللجوء إلى العنف في مواجهة دعاة التغيير والاصلاح. أما قوى التغيير التي طرحت برنامجها للاصلاح السياسي فهي بدورها توسلت العنف سبيلا لتحقيق أهدافها السياسية أولاً لأنها استقوت بالسلاح الفلسطيني على الدولة وعلى خصومها في الداخل وثانيا لأنها، كما قوى السلطة، شخصت المرض تشخيصا مغلوطا، وهذا هو أصل الداء والبلاء
قوى السلطة حمّلت الوجود الفلسطيني كل المسؤولية وأعفت نفسها من مجرد التفكير بالاصلاحات الضرورية على النظام واعتبرت ذلك نقاشاً خارج الموضوع ومساساً “بالكيان والصيغة” وهما مصطلحان إضافيان في القاموس السياسي اللبناني. أما الأحزاب اليسارية والقومية والعلمانية فقد ركزت هجومها على أمرين رأت أنهما منبع كل الأزمات، الطائفية وصلاحيات رئيس الجمهورية، وهو ما حاولت أن تقدم له علاجا في البرنامج المرحلي للاصلاح السياسي الذي اقترحته الحركة الوطنية اللبنانية في بداية الحرب الأهلية.
حصرت نواقص الديمقراطية في التوزيع غير العادل للصلاحيات وحملت موقع رئاسة الجمهورية مسؤولية احتكارها على حساب السلطتين التنفيذية والتشريعية، وجعلت هذه النواقص نتيجة حتمية لآفة الطائفية فاقترحت إلغاء “الطائفية السياسية” من النظام ، وهو مصطلح لبناني صرف.
أثبتت الحرب ونتائجها السياسية أن الاقتراحين اليساريين، أي تعديل صلاحيات رئيس الجمهورية وإلغاء الطائفية السياسية، شكّلا جسر عبور نحو الأسوأ، إذ لم يحل التعديل، بعد إقراره في اتفاق الطائف، دون تجدد أزمة النظام. من ناحية أخرى، أفضى اقتراح الحل الطائفي لأزمة الطائفية إلى المزيد من التردي والانحدار السريع نحو المذهبية. وكذلك أثبتت التجربة العملية أن استخدام مصطلح “طائفية” لم يكن يصيب المعنى الذي كانت تقصده الأحزاب اليسارية، بقدر ما كان يسيء إليها وإلى قضية الاصلاح السياسي. فهو يطرح السؤال عن حصة عموم الموارنة من امتيازات رئيس الجمهورية، أو حصة الطائفة السنية من امتيازات رئيس الحكومة، أو حصة الشيعة من امتيازات رئيس البرلمان؟ لقد دلت التجربة العملية على أن الامتيازات، إن وجدت، لا تعود على غير أصحاب السلطة، بأشخاصهم وحاشياتهم وأزلامهم، ولا تتوزع “إلا بمقدار ما تنداح دائرة في لجة الماء يلقى فيه بالحجر”( بيت الشعر لابن الرومي). ما إن تبدأ الدوائر حتى تتلاشى. بيد أنها حصص يستولي عليها أشخاص باسم الطوائف، بعد أن يضللوا أبناء طوائفهم ويستخدموا انتماءهم إلى الطائفة ويستثمروه ليستأثروا بالنفوذ وبالثروة.
الشعور بالانتماء إلى دين أو طائفة أو مذهب هو أمر طبيعي، وهو قد يكون فردياً أو جماعياً، أما إزاحته من الحقل النفسي أوالثقافي إلى الحقل السياسي وتحويله نعتا للنظام فهذا ما يتنافى مع طبيعة نظامنا الدستوري والديمقراطي( نظرياً) الذي لا تنص قوانينه على دين للدولة. إذن ماذا يستهدف اقتراح إلغاء الطائفية السياسية غير تهييج المحاصصين؟ وبأي سلاح سيقاتل المحاصصون؟ سلاح المشاعر الطائفية هو الأمضى، والعلمانيون يخسرون المعركة قبل الدخول إلى الحلبة.
مفاعيل التشخيص المغلوط لا تقتصر، إذن، على فشله في حل المشكلة بل هو يزيدها تعقيداً، فضلا عن أن الخصوم ينفذون منه للقيام بهجموم مضاد. هذا هو بالضبط ما حصل مع القوى العلمانية التي قصدت محاربة الطائفية فلم تنل من ذلك غيراستعداء الطوائف ودفعها إلى التحلق حول القيادات الأكثر إثارة للعصبيات والأكثر استفادة منها، ما أسهم في ترسيخ أكثر السلبيات خطورة في النظام، أي الوراثة والمحاصصة في مرحلة السلم، والميليشيات المسلحة في الحرب.
السلطة والمعارضة يتقاسمان المسؤولية إذن عن استخدامهما العنف سبيلا لتحقيق هدف سياسي، وبالتالي عن كل الكوارث التي حلت بالدولة بفعل الحرب، وعلى كل منهما أن يراجع تجربته ويقوم بقراءة نقدية لتجربة الحرب الأهلية ليعرف حجم حصته من عملية التدمير المنهجي التي طالت الدستور والقضاء والمؤسسات وسيادة القانون والقيم والانتماء الوطني.
السلطة والمعارضة يتقاسمان المسؤولية إذن عن استخدامهما العنف سبيلا لتحقيق هدف سياسي، وبالتالي عن كل الكوارث التي حلت بالدولة بفعل الحرب، وعلى كل منهما أن يراجع تجربته ويقوم بقراءة نقدية لتجربة الحرب الأهلية ليعرف حجم حصته من عملية التدمير المنهجي التي طالت الدستور والقضاء والمؤسسات وسيادة القانون والقيم والانتماء الوطني.
أول الكوارث التي اقترفتها القوى السياسية الحاكمة والمعارضة بحق الدولة هي تهديدها السيادة الوطنية. قبل الحرب وزعت القوى الحاكمة السيادة إلى سيادات، فمنحت كل زعيم طائفي حصة منها أو منطقة أو بعض منطقة، طائفة أو بعض طائفة، وحين أتت الحرب تسابق الجميع على استدراج الخارج والاستعانة به ضد الدولة والسيادة الوطنية، أهل السلطة جميعهم مع سوريا، وبعضهم مع إسرائيل، واليسار مع الفلسطينيين، والشيعية السياسية مع إيران.
كانت هذه أم الكوارث، والمأساة فيها أنها لم تشكل درساً كافياً يتعلم منه اللبنانيون الحفاظ على وطنهم. قد تكون قوى السلطة أكثر حكمة من قوى المعارضة على هذا الصعيد. السلطة الرسمية شرعت، مرغمة، للسلاح غير الشرعي على الأرض اللبنانية، بفعل الضغوط العربية أولاً، وجرياً على عادتها بتوزيع السيادة حصصاً فكانت للثورة الفلسطينية حصتها بموجب اتفاق القاهرة. أما المعارضة اليسارية والقومية فلم تهلل فحسب، بل كانت تحتفل ابتهاجاً كلما أقفل النظام السوري بوابة المصنع على الحدود بين البلدين للضغط على الحكومة اللبنانية ومطالبتها بالتنازل عن سيادة الدولة لصالح منظمة الصاعقة والمنظمات الفلسطينية الأخرى. وقد فتح التجرؤ على السيادة الباب على كل أنواع الانتهاكات للدستور والقوانين ولهيبة الدولة ولكل الأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة، إلى أن كان الانتهاك الأكبر بتشريع الحدود أمام كل راغب وطامح وطامع.
من باب التعرض للسيادة بدأ انتهاك القانون. في أول الحرب ألغت الميليشيات المسلحة قداسة الملكية، وسعى بعضها ( قوات زاهر الخطيب) إلى إلغاء صكوك الملكية، يوم أقدمت مجموعة تابعة له على إحراق مستودعات الدوائر العقارية، بعد أن كانت جميعها قد سعت إلى الاستيلاء على ودائع البنوك في قلب العاصمة، عند بداية الحرب الأهلية، لأن مصادرتها، في نظر المصادرين، حق مشروع للمجهود الحربي ولتمويل الثورة. ثم أخذت الأمور تتردى، ولا سيما حين نفدت مصادر التمويل العربية، فاستعاضت الميليشيات عنها بما سمي “التشبيح” أي استيلاء أفرادها بالقوة على الأملاك الخاصة المنقولة وغير المنقولة من شقق وبساتين وسيارات تحت ذريعة تمويل الثورة، إلى أن بلغت هذه الحالة ذروة في الجبايات المالية، التي فرضتها الميليشيات على السلع ولا سيما النفط، وخصوصا بعد تعطيل مصفاتي النفط في الزهراني وطرابلس، فتولت حركة أمل إدارة الأولى، على أساس أن التمويل على الحكومة والجباية والإيرادات لصندوق حركة أمل. حتى حين عادت مؤسسات الدولة إلى العمل بعد الطائف، تمكنت الميليشيات من انتزاع الحق الحصري في تجارة البترول من الدولة وتوزعته في ما بينها برعاية سورية مباشرة، إلى أن أملي على المجلس النيابي تشريع الأمر الواقع بسن القوانين.
لم تتوقف الجباية المالية عند هذا الحد. فقد نظمت الميليشيات جباياتها بديلا من الدولة في الأدارة المدنية في الجبل ( الحزب الاشتراكي) وفي صيدا( التنظيم الشعبي الناصري)، وكلفت حواجز مسلحة للقيام بهذه المهمة. أما في الجنوب فقد نظم التنظيم الشعبي الناصري وحركة أمل الجباية في الدوائر العقارية بفرضهما رسوماً على العقارات المباعة من مسيحيين قيمتها عشرون بالمئة (ربما تطبيقا لما ورد في إحدى آيات القرآن الكريم: ومما غنمتم فلله خمسه وللرسول …أو ربما كانت صيغة من الجزية، من يدري؟) أما في المنطقة الشرقية من بيروت فقد استولت القوات اللبنانية على الحوض الخامس وجعلته مصدر تمويلها الأساسي.
الأخطر من ذلك هو أن الميليشيات بعد توقف الحرب و اتفاق الطائف، انتقلت من الشارع إلى السلطة، حاملة معها نهجها وآليات عملها، فارضة على الحكومة توزيع المال العام، من خلال الصناديق، على الأزلام والمحاسيب، بدل توظيفه لتوفير فرص عمل في مشاريع استثمارية، كما حولت الجباية المالية” التشبيحية” إلى جباية “رضائية” من خلال التمويل الطوعي في حملات تبرع في بلدان الاغتراب أو بهبات مباشرة تقدمها برجوازيات الطوائف لزعمائها، مقابل خدمات وصفقات يؤمنها لهم مسؤولو ميليشيات السلطة على حساب المالية العامة في التزامات وتعهدات ومشاريع تمولها الدولة.
إن البرجوازية اللبنانية التي اعتمدت نهج التمويل الطوعي للميليشيات وزعمائها والتي ورثت التخلي عن لعب دور سياسي لصالح العائلات وحكمها الوراثي، لم تعد تملك غير الصراخ كلما تعرض الاقتصاد الوطني للخطر بفعل السياسات الميليشوية، فتعقد المؤتمرات وترفع الصوت احتجاجاً. غير أن الصراخ صار بلا صدى بعد أن حولته الميليشيات مع التشبيح والتبرع الطوعي إلى سلوك يومي عادي وجعلته جزءاً من التقاليد السياسة اللبنانية “الخالدة”.
انتهاك القوانين المالية لم يبدأ مع الحرب، ولا هي التي صنعته أو تسببت به، بل هي التي أطلقت له العنان وأزالت من طريقه كل العراقيل والقيود. قبلها كان القانون هو القاعدة وضوابطه محكمة وانتهاكه الاستثناء. خلال الحرب وما بعدها صار الالتزام به هو الاستثناء، وشكل التطاول عليه حافزاً للتطاول على كل القوانين، من قانون السير إلى قانون الضريبة وقانون الأملاك المبنية وقانون الأملاك العامة والأملاك البحرية والنهرية وعلى رأسها القوانين والمراسيم الاشتراعية المتعلقة بالوظيفة العامة.
انتهاك السيادة هو اعتداء على الدولة. لأن الدولة هي التي تجسد السيادة ، والسيادة ليست شيئا آخر غير سيادة القانون. قبل انفجار الصراع المسلح كانت حرب غير مسلحة على الدستور الذي يجعل رئيس الجمهورية حاكماً لا يخضع للمحاسبة، بينما يحاسب رئيس الحكومة ولا يحكم( منطق المعارضة والسنية السياسية). مع الحرب الأهلية طالبت المعارضة بتعديل الدستور، وتم تعديله فعلاً في اتفاق الطائف، استجابة لرغبة السنية السياسية وللمعارضة اليسارية القومية، إلا أن التطبيق العملي اقتصر على انتزاع بعض صلاحيات رئيس الجمهوية، ومنها تسمية رئيس للوزراء وأناط المهمة بالمجلس النيابي. في ظل قانون انتخاب رسمته أجهزة المخابرات السورية على مقاس حاجتها في ضبط الوضع اللبناني، صار اختيار رئيس الجمهورية وتسمية رئيس الحكومة وتسمية نواب الأمة أمراً محصوراً بمن يدير دفة الحكم من وراء الستار، أي بنظام الوصاية خلال وجوده، ثم بموازين القوى المحلية والاقليمية والدولية بعد انسحابه، ما يعني تعطيل المواد الدستورية المتعلقة بانتخاب السلطات السياسية في البلاد. طريقة مبتكرة لتعليق الدستور.
مقالات ذات صلة
حراك “أبو رخوصة” وحيتان المال
ثقافة الميليشيا
المال الحرام