23 نوفمبر، 2024

إصلاحٌ مستعصٍ أم دينٌ عصيّ ؟

محمد علي مقلد                                                                   13-2-2015

الشرق، مهد الديانات السماوية مريض بمتدينيه. المسيحيون هجروه أو هُجّروا منه ، واليهود أعيدوا إليه من شتات بعيد في الزمن، ومسلموه توزعوا فرقا ومذاهب ويستكملون اليوم حروبهم و”تذابحهم”. كل ذلك باسم الدين.

المرض واحد، دخول الدين في بطن السياسة، حشر المقدس في المدنس، والروحانيات في المصالح اليومية والدنيوية. وحين تقع الواقعة لا يعود السؤال عن هوية الجاني ضروريا ولا مفيدا إلا لمن يريد قتل الناطور. أما الراغب في أكل العنب فلا يعنيه غير العلاج.

الموت في حروب التبشير الأولى كان مبرراً في مخيلة المؤمنين. هو موت في سبيل الله. والشهيد، في نظرهم، “يعيش يوم مماته”. حين انتهت حروب التبشير، اكتشف “علم التاريخ ” أنه ما من موت إلا وكانت وراءه مصلحة دنيوية. غير أن المؤسسة الدينية في كل مكان وفي كل الأديان، كانت لا تعدم وسيلة لتغلف المصالح الدنيوية بالقداسة، دفاعا عن سلطتها الثقافية كممر للدفاع عن سلطتها السياسية، ثم الدينية في آخر المطاف. وعندما فضحها العلم جعلته عدواً.

الحضارة الرأسمالية نشأت على أعمدة من أهمها العلم واكتشافاته، وحين قررت الكنيسة محاربة العلم، بدءاً بغاليليه وعلم الفلك، أوقعت نفسها في مواجهة الحضارة الجديدة بكل عدتها المستحدثة ولاسيما السلاح الناري والاقتصاد الرأسمالي، فانهزمت وانكفأت مرغمة إلى مملكتها، وحصنت نفسها بلاهوت معاصر يلامس السياسة ولا يمارسها.

الثورة الرأسمالية انتصرت في أوروبا على الحضارة السابقة، ورسمت في السياسة حدودا واضحة بين سلطة الدولة وسلطة الدين (الكنيسة). وما كان لها أن تنتصر لو لم  تواكبها ثورة دينية قادها المصلح لوثر واستكملها أتباعه ومؤيدوه ومريدوه في الشمال الأوروبي ثم في الشمال الأميركي.

ثورة لوثر لم تكن على الدين بل على تسييس الدين. أول خطوة قام بها هي ترجمة الانجيل إلى اللغة المحلية(الألمانية)، لتيسير اطلاع المؤمنين عليه على أوسع نطاق. هذا ما يفسر “نقزة” رجال الدين المسلمين في بلاد الشام من مخلوق جديد اسمه المطبعة، استشرفوا خطرها واعتبروها بدعة فحرّموها، مع أنها، بل لأنها، اختارت أن يكون القرآن أول كتاب يولد بنسخه الكثيرة العدد وبالحروف غير المخطوطة.

ربما كانت تلك أولى الفتاوى المعادية للدين وللتقدم. غير أن حركة الاصلاح الديني في بلادنا الغنية بروادها الكبار، من الأفغاني ومحمد عبده إلى محمد مهدي شمس الدين و محمد حسين فضل الله و هاني فحص، لم تتجاوز مجال إبداء الرأي بقضايا فقهية أو وطنية أو اجتماعية أو سياسية، إلى وضع نظرية متكاملة تخلص الدين من الأدران التي علقت به طيلة قرون من الجهل امتدت مما قبل انهيار الدولة العباسية في الشرق والأموية في الاندلس حتى قيام دولة محمد علي باشا.

بدأت أخطاء المصلحين تتناسل من خطيئة أصلية ارتكبوها عند الإجابة على سؤال النهضة. لم يكن عيبا أن تنبهنا مدافع نابليون إلى سبات عميق كنا مستغرقين فيه، ولا كان عيبا أن تأتينا طلائع الحضارة الجديدة من الغرب، فالحضارات كسباق البدل، كنا روادها في لحظة من التاريخ، ولا بد أن يكون لسوانا لحظاتهم. ربما دفعتنا المكابرة إلى معاندة التقدم ورحنا نجر عربة التاريخ إلى الوراء، ونبدد الجهود والطاقات دفاعا عن الماضي وعن أنظمة الاستبداد، وانتصب الغرب أمامنا عدواً وحيداً وحجتنا أنه غرب وأنه مسيحي، ولأن التلاقح مع حضارته أخذ شكل الاستعمار.

غرق الاصلاح الديني كما الاصلاح العلماني في متاهة، أو هما دارا في حلقة مفرغة، حين اعتقد كل منهما أن المشكلة تكمن في الدين،فقهاً ونصوصاً وطقوساً،  فهب فريق يدافع وآخر يهاجم، ودارت معركة جانبية لم يكترث التاريخ لها، ودفعت شعوبنا ولا تزال تدفع جراءها أثمانا غالية.

المشكلة الحقيقية تكمن في تعامل البشر مع الدين، في تفسيرهم النصوص وممارستهم الطقوس، وفي إشهارهم سلاح التكفير عند أي اختلاف أو تباين بالرأي، بحيث لم يسلم أحد من الوقوع ضحية التهمة، ولم يكن أحد بريئا من استخدامها سلاحاً فتاكاً في وجه خصومه، والكل يتسلح بالنص ويستظل به في معركة ظاهرها “الدفاع عن الله” الذي لا يحتاج إلى من يدافع عنه، وجوهرها التمسك بمنظومة ثقافية سياسة تمجد الاستبداد.

لم يعد يكفي في الاصلاح الديني إطلاق المواقف الجريئة أو إبداء الرأي السديد أو الدفاع عن وجهة نظر صائبة في أمر من الأمور أو قضية من القضايا. لقد بات الاصلاح يحتاج إلى ثورة فقهية، ثورة على الاعتقاد بأن السلف خير من الخلف، وعلى التردد في تعطيل نصوص تجاوزتها ظروف التطور والتقدم الفكري والاقتصادي والسياسي، وعلى الخوف من النظام العلماني الذي، وحده، حمى الكنيسة من الجهل الكهنوتي وساعدها على سحب الدين من بطن السياسة.

 لقد بات الاصلاح يحتاج إلى ضبط حالة الفلتان المعششة في السلطة الدينية، حيث يمنح أيٌّ كان نفسه لقب الأمير أو الداعية أو الحجّة أو العلاّمة، من غير حسيب علمي أكاديمي أو رقيب ومن دون معيار، وينصّب نفسه حاكماً بأمر الله، “خليفة الله يستسقى به المطر”، ووصياً على المؤمنين، ويطلق فتاوى القتل والذبح المعيبة بحق الاسلام والمسلمين، ويقرر نيابة عن الدولة والعلم مصائر العولمة والخريطة الجينية واستكشاف الفضاء وأعماق البحار والعلوم الرقمية.

نعم. على الاصلاح الديني أن ينتقل من الهواية إلى الاحتراف، من الرأي والمواقف المبعثرة إلى الثورة. الوعي الديني، هو الأخر، يحتاج إلى ربيع يكشح عنه قرونا طويلة من الاستبداد.