23 نوفمبر، 2024

الخطاب التكفيري

19-2-2015

من حق حزب الله أن يضمن خطابه كل مصطلحات الصراع والحرب في المعارك التي يخوضها مع خصومه في الداخل والخارج. غير أن المصطلح وإن لم يكن يشبه السلاح الناري ، فقد يكون أكثر منه فتكا، لأن بناء الوعي الديني أو السياسي على أعمدة من المفاهيم والمصطلحات يجعله أشبه ببناء من الباطون المسلح يحتاج تهديمه من الوقت أضعاف ما تحتاجه عملية بنائه. حتى أن أحد الفلاسفة (ألتوسير) رأى أن الأفكار قد تبقى قائمة معلقة بذاتها حتى لو تهدمت كل الأعمدة التي بنيت عليها، ويشحن المصلحات بطاقة تدميرية هائلة، خصوصا حين تكون مغلوطة أو ملغومة.

التكفير سلاح ذو حدين بل حدود. فهو، كالقنبلة الانشطارية، يصيب في كل الاتجاهات. وهو تهمة قديمة لم يتفق أهل الدين قديما على مضمونها، فضلا عن أن قيما جديدة أزاحتها وجعلتها فاقدة الصلاحية، وأحالت المصطلح على التقاعد، بعد أن انطوى عصر التبشير الديني، ولم تعد تتسع الحضارة وقيم العلم والعلاقات بين الدول والشعوب لحروب دينية صارت من غابر التاريخ. وما نبشه اليوم من التاريخ سوى استحضار لآليات القتل الوحشي القديمة التي تجسدها خير تجسيد داعش وسائر الأصوليات في مجازرها المتنقلة من القاعدة في باكستان حتى بوكو حرام في نيجيريا.

الأديان ليست الوحيدة التي كفرت غير المؤمنين بها. الأحزاب الايديولوجية كلها والتنظيمات السياسية، ولا سيما الشمولية منها، ومن بينها حزب الله وخصومه، استخدمت سلاح التكفير، وأصيبت بشظاياه، لأنها وجدت من يكفرها هي الأخرى. ستالين قضى، بين مؤتمرين، على أعضاء مؤتمر بكامله، ولفق لأستاذه الذي علمه قوانين الديالكتيك تهمة الانتماء إلى المونشيفيك قبل الثورة، وأعدمه ناهيك عن تكفيره تروتسكي وتعقبه حتى أميركا اللاتينية واغتياله؛ جمال الدين الأفغاني كفروه ومات مسموما، الكواكبي كفره النظام العثماني ولاحقه وقتله في مصر؛ نجيب محفوظ كفروه وحاولوا قتله، بينما نجحوا في قتل فرج فوده، مهدي عامل وحسين مروة كفّرهما المكفّرون واغتالوهما، الشيخ الأزهري الذي كفّر نصر حامد وقع بدوره ضحية تهمة التكفير، واللائحة لا تنتهي.

 أخطر ما في هذا السلاح سهولة استخدامه. يكفي أن تخالف رأي أحدهم أو تعارضه، أي ألا تشاركه اعتقاده وإيمانه بأفكاره فتكون كافراً. هكذا يفعل كل حاكم مستبد بخصومه، حاكمو الأحزاب اليسارية والقومية والاسلامية من الجزائر حتى أفغانستان ، مرورا بالجماعة الاسلامية والبعث والثورة الإيرانية والانقلابات ذات الشبهة الشيوعية ، كلهم كفروا خصومهم تمهيداً وتبريراً للقضاء عليهم.

يستسهل حزب الله تكفير أصحاب الرأي المختلف، من غير أن ينتبه إلى أنه يوزع على المحازبين والأتباع والمريدين هذا السلاح الخطير، مجيزاً لأي منهم، أيا يكن مستواه الثقافي أو موقعه في الهرم التنظيمي، إشهاره في وجه من يشاء بمناسبة وبغير مناسبة.

 أولوياته ، بحسب ما ورد في خطاب أمينه العام، محددة بمواجهتين، الأولى مع الصهيونية، والثانية مع التكفيريين. في الأولى يتحول الاختلاف في الرأي، في لغة حزب الله، إلى تكفير، إلى خلاف على المبدأ، وبموجبه يصير المخالف( أكثر من نصف الشعب اللبناني) عدواً أو عميلاً للعدو. في المواجهة الثانية،النصف ذاته عميل، هذه المرة، لأنه حليف أميركا والغرب الأطلسي ضد جبهة الممانعة، بقيادة النظامين السوري والإيراني، ولأنه الوحيد مع إسرائيل لا يعترفان بخطر التكفيريين ويمتنعان عن مواجهتهم.

غير أن حزب الله يخوض أنواعاً أخرى من المواجهة . منها أنه يكفر المعترضين على التنسيق بين الجيشين السوري واللبناني. كأنه، بذلك، يريد أن يمحو من ذاكرة الشعب اللبناني ما اقترفه النظام السوري بحق لبنان ونظامه ودولته وأحزابه ومن بينها حزب الله بالذات، وخصوصا بحق من وظفهم توظيفا ذليلا في خدمة مصالحه، وجعلهم وقودا يشعل بهم  حروباً صغيرة متنقلة حسب الحاجة. أو كأنه يغفل فرحة الشعب اللبناني بزوال كابوس النظام الأمني الذي ربض على صدره ثلاثين عاماً، ومارس كل أشكال القهر والقمع والقتل والتخريب. وإن لم يكن هذا الاغفال بمثابة التكفير فهو، على الأقل، استخفاف بمشاعر اللبنانيين ورغبتهم في بناء وطن سيد حر مستقل .

الثاني حين يقيس أحداث الربيع العربي بمقاييس النظام الايراني ومصالحه، المتعارضة مع مصالح شعوب الأمة العربية ورغبتها في التحرر من استبداد سياسي مارسته الأنظمة، ولا سيما النظام السوري، ومارسته الأحزاب السياسية في الحكم وفي المعارضة في طول العالم العربي وعرضه، واستبداد ديني تحكّم بمنظومتنا الثقافية والاجتماعية ووقف حجر عثرة أمام كل محاولات الاصلاح  وبناء الدولة الحديثة .

والثالث حين يلوي عنق التاريخ ودروسه، فيقرر أن وحشية هي اختراع أميركي هوليودي، وكأنه لا التاريخ العربي والاسلامي ولا تاريخ الكنيسة ومحاكم التفتيش شهد حصول مجازر وأحداث قتل واغتيال، أو كأن المؤسسات الدينية ونصوصها المقدسة بريئة من العنف الدموي ، أو كأن الأصوليات القومية والدينية واليسارية لم ترتكب، هي الأخرى، في أعقاب كل انقلاب أو ثورة مزعومة في عالمينا العربي والاسلامي كل صنوف التعذيب المعروفة أو المبتكرة.

ما تفعله داعش ليس جديداً ولا هوليودياً، بل هو تطبيق لنصوص تضمنها بيان الأزهر الشريف ، واستحضار لأساليب تعذيب قديمة كدفن الخصوم أحياء، أو كالتي في خطبة الحجّاج  بن يوسف الشهيرة : “إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها … لألحونكم لحو العصا” أو التعذيب الانكشاري برمي المعارضين طعاما لحيتان البوسفور،  أوالسحل بسيارتين بدل الحصانين.  

التكفير يدمر الجميع، وهو باب للتراشق بالعنف وليس مآله إلا الحروب. أوصدوا هذا الباب وتعالوا إلى كلمة سواء. الاستبداد على أنواعه، اليساري والقومي والديني، هو العدو المشترك لتطور شعوبنا.