22 نوفمبر، 2024

الديمقراطية والثورات العربية

محمد علي مقلد                                                                     ‏18‏/03‏/2013

ما آلت إليه الثورات في مصر وتونس وليبيا خلق حالة من الاحباط في النفوس المتعطشة للتغيير . فقد انتهت الانتخابات التشريعية الأولى في هذه البلدان الثلاثة إلى فوز الحركات الاسلامية بأغلبيات متفاوتة . هذا فضلا عما يحصل في سوريا من تزايد في نفوذ الحركات الأصولية المتشددة ، وما سبق أن حصل في اليمن بعد انتهاء الثورة بتسوية أدنى مستوى من خواتيمها المرجوة أو المفترضة أو المتخيلة .

بعض الاحباط سبق عمليات الاقتراع ، بل هو ظهر متزامنا مع الثورات التي عيب عليها خروج الثوار من المساجد واستخدامهم شعارات مستلهمة من تراث الاسلام السياسي . وتعزز هذا الاحباط لأن الهدف الافتراضي من الثورة هو التخلص من نظام الاستبداد الوراثي إلى نظام يتم فيه تداول السلطة عبر الانتخابات الحرة . غير أن الاستبداد عاد مرة أخرى ، ولكن ، من خلال صناديق الاقتراع هذه المرة ، ما خلق شكوكا لا حدود لها بالديمقراطية وآلياتها وطرق تطبيقها ونتائجها ، وطال ذلك الربيع كله ومبرراته من حيث المبدأ والأساس ، ووصلت المقارنة حدودا غير منطقية لدى من دفعته شكوكه إلى مناصرة الأنظمة القديمة ضد الثورة ، بذريعة أن هذه الثورات لا يمكن أن تكون ذات أهداف نبيلة إن هي كانت مدعومة من أنظمة الامبريالية العالمية وأعوانها المحليين.

الاحباط شعور طبيعي عند من احتفظ لنفسه بصورة عن الثورة نقية غير ملطخة بدم أو جريمة أو شكل من العنف ، ومتطابقة فحسب مع تلك الموجودة في مخيلة ملائكة التغيير والإصلاح والتجديد. وهو طبيعي أيضا عند من يعتقدون أن الثورة عملية بسيطة تنقل نقلا ميكانيكيا المجتمع من حال إلى حال ، ولا يرون فيها مخاضا يشبه كل الولادات مليئا بالآلام ، أو من ترسخت في أذهانهم صور عن الثورة تشبه صور الانقلابات الفوقية التي تشبهت بالثورات ، ونماذجها كثيرة في عالمنا العربي. وهو طبيعي أيضا عند من يفهم الديمقراطية فهما مغلوطا أو على الأقل ملتبسا.

الثورة الفرنسية التي أطلقت شرارة الديمقراطية ، بمعناها الحديث لا بمعناها اليوناني ، احتاجت إلى قرن ونصف القرن ، لتأخذ شكلها شبه النهائي مع نهاية الحرب العالمية الثانية . خلال تلك الفترة الطويلة تم اختبار صيغ كثيرة من الاقتراع ، كان أولها حصر الحق في إبداء الرأي والتصويت  بعدد محدود من “المواطنين” ، من الذين يدفعون “الضرائب” ويتمتعون بمستوى من “المعرفة” .

ثلاثة معايير ، مواطنية ، ضريبة ، معرفة . على أن أهمها المعيار الثالث ، وهو مرتبط ارتباط علة بمعلول ، بحقوق الانسان التي نصت عليها الشرعة في أواخر القرن الثامن عشر وتكرست في الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الأمم المتحدة . من بين هذه الحقوق ، حق المعرفة والعلم ، والحق في الحرية ، حرية الانسان الفرد ، وهي حقوق لا تصان إلا بقوة القانون و دولة القانون، أو ما عرف بدولة الحق ( هيغل)

الثورات المزعومة ، بعد الثورة الفرنسية ، عطلت الديمقراطية وشوهت صورها ، بدعوى أولوية المساواة الاجتماعية والطبقية على المساواة أمام القانون، وكان مدخلها إلى التعطيل إلغاء حرية الأنسان الفرد ، إما بتثبيت انتماءاته الطبيعية الأهلية ( العشيرة ، العائلة ، المذهب ، الطائفة ، أو الحزب الذي يشبه الطائفة ، أو النقابة التابعة لمذهب أو طائفة) ، بحيث أن الاختيار  لم يعد حرا لا في الانتماء السياسي ولا في صناديق الاقتراع .

إن لم تكن الشروط المثالية للانتخابات متوافرة ، فهل ننقلب على نتائجها؟ هذا سؤال طرحه فوز الاسلاميين في الانتخابات البلدية في الأردن في السبعينيات وفي الانتخابات التشريعية في الجزائر بعد ذاك التاريخ ، وهو مطروح اليوم على ضوء وصول الإسلاميين إلى السلطة عن طريق الاقتراع في مصر وتونس . تعددت الأجوبة المغلوطة على هذه المعضلة. من جواب السلطة الجزائرية التي توسلت أساليب غير ديمقراطية للوصول إلى السلطة ،ثم قاتلت الاسلاميين تفاديا لقيام نظام غير ديمقراطي ، إلى جواب المشككين بالديمقراطية باعتبارها نتاجا للحضارة الرأسمالية وللنظام العالمي الامبريالي ، وما بين الجوابين سلوك اليسار والحركة القومية العربية الذي عطل الديمقراطية على امتداد القرن العشرين ، أو سلوك الأنظمة كلها الذي ساهم في تعميم نسبة الأمية من ثمانين في المئة من سكان السودان واليمن إلى عشرين بالمئة من سكان لبنان( إحصاءات الأمم المتحدة)

التمسك بالخيار الديمقراطي هو السبيل الوحيد للتخلص من نواقصها ، شيئا فشيئا ، عن طريق تأمين شروطها المثلى : تعميم المعرفة وصون حق الفرد في الاختيار الحر. الطريق طويلة ووعرة . وهي وحدها الاتجاه الالزامي للتخلص من أنظمة الاستبداد ، بل هي جزء من سيرورة الثورة المستمرة .