9-10-2014
أكتب عن أخطاء غبطته مرة أخرى لأن للبطركية المارونية دورا تاريخيا في نشوء لبنان، ولأن مسؤوليتها عن حماية مسيحيي الشرق توازي مسؤوليتها عن تهجيرهم ، ولأنها مع الأزهر والنجف مسؤولة عن رسم حدود دقيقة بين دور مطلوب لكل منها ، على الصعيد الوطني، ودور سياسي مرفوض ، ولأن سكوتها عن جرائم موصوفة بحق الأديان والأوطان ، يرتكبها عاملون باسم الأديان أو مدافعون مزعومون عنها ، من العلمانيين أو من رجال الدين، يجعلها شريكة في تحمل أوزار تلك الجرائم .
أخطاء هي من صنف الخطايا ، ويحسبها صاحب النيافة من باب الجرأة والقرار الحر . زار سوريا وقت كان النظام محاصرا في زاوية أزماته المستعصية ، وزار فلسطين المحتلة من غير أن يضع دراسة جدوى ، وآخر مبادراته دعوة للحوار مع الخلافة الاسلامية الداعشية .
يقدم على الخطأ من دون أن يحسب حساب التبعات السياسية المترتبة على خطواته المستعجلة ، ظنا منه أنها دينية لاهوتية الفحوى وخالية من أي بعد ناسوتي . في زيارته إلى “الأماكن المقدسة” في سوريا أفرج عن النظام البعثي ووضع خصومه اللبنانيين ، أي ضحاياه ، في موقع الحصار. في الثانية ، إلى الأماكن المقدسة في فلسطين أطلق ألسنة الممانعين وأنصار المقاطعة وخطباء الانتصارات الألهية . أما مبادرته الثالثة فقد ذهبت أدراج الرياح ، ولم يكترث لها أحد ممن كانت موجهة إليهم ، بل يخشى من أن تؤدي إلى عكس المرتجى ، أي إلى الافراج عن الأصوليات الاسلامية المحاصرة من كل الجهات.
قد يظن البعض أنها هفوات عابرة وأن سلبياتها محدودة بزمانها. غير أن منهج التفكير الذي أنتجها قد ينتج سواها في أي وقت ، فضلا عن كونه يجيز للأخرين ويشجعهم على الحذو حذوها. لقد تمكنت كنيسة روما من التكيف مع القيم والآليات التي قامت عليها الدولة في العصر الحديث ، وارتضت لنفسها حرما دينيا(الفاتيكان) لم يحل صغر مساحته دون لعب دور واسع النطاق على الصعيد العالمي ، وأساس هذا التكيف إخراج الدين من كنف الدولة ، على أساس التمييز الدقيق بين القضايا التي تهم الوطن بل الأوطان والقضايا السياسية المتعلقة بالسلطة ونظام الحكم.
دور البطركية المارونية ، على العموم ، هو دور وطني بامتياز، منذ لحظة تأسيس الكيان اللبناني، لكنه لم يستمر دائما على هذا النحو. المواقف المنحازة، حيال السياسة والسلطة والنظام ، أو التدخل في شؤون القضاء والإدارة والجيش والحكومة والمعارضة، كانت تعرّض الكنيسة للنقد والسياسيين التابعين لها لارتكاب الخطأ.
على الضفة الأخرى، عجزت المؤسسة الاسلامية عن بناء سلطة دينية وعن أن تجمع في كنفها الكهنوت الاسلامي كما في الكنيسة. ما سمح لمعممين أن يؤسسوا، على هامش الأزهر والنجف، وخلافا لإرادتهما على وجه العموم ، حركات ذات اهتمامات سياسية مباشرة، لا تخفي في برامجها طموحها لاستلام السلطة، ومن بينها داعش وكل المشتقات الاسلامية الأصولية والسلفية وحزب الله وحزب الدعوة ، الخ.
البغدادي منح نفسه لقب الخليفة، حاكما على الدولة الاسلامية ، أي صاحب السلطة والسلطان. مبادرة البطرك ، وذريعتها الحرص على ما تبقى من مسيحيي الشرق، شكلت غطاء للسلطة الدينية التي اغتصبها الخليفة المزعوم واعترافا بها ، في وقت يبحث المتضررون ، ومن المفترض أن يكون غبطته في عدادهم ، عن سبيل للتخلص من تلك الدولة القروسطية.
صحيح أن المبادرة ماتت في مهدها، وتعددت الكتابات التي أدانتها أو أشارت إلى مساوئها،غير أن الفضل في موتها يعود إلى الخلافة المزعومة التي لم تكترث لها.
إن حماية مسيحيي الشرق،يا صحاب الغبطة، مسؤولية المواطنين، مسيحيين ومسلمين، ممن يناهضون الأصوليات على أنواعها ، ولاسيما منهم العلمانيون الذين تجافيهم في تصريحاتك. وحمايتهم جزء من حماية كل الأقليات في إطار الدولة الحديثة التي رضيت الكنيسة، منذ أكثر من قرنين ، ولو مرغمة ، بقيامها ، باعتبارها الإطار الوحيد الذي يتسع للاختلاف.
هي مبادرة المستجير من الرمضاء بالنار . بديلا عنها ، ربما كان على المؤسسات الدينية كلها، الاسلامية والمسيحية، أن تنسحب من الصراعات السياسية على السلطة ، وأن ترفع الغطاء الديني عن رجال الدين والسياسيين الذين يستخدمون الغطاء الديني لأغراض سياسية. هذا ما تفعله مؤسسات عريقة كالأزهر والنجف والكنيسة القبطية . فهل تفعلها البطركية المارونية؟
مقالات ذات صلة
حراك “أبو رخوصة” وحيتان المال
ثقافة الميليشيا
المال الحرام