21 نوفمبر، 2024

الإيمان من النظافة

16-7-2016

مرض “الوطان” بحسب التسمية التي أطلقها صديقي الشاعر حمزة عبود على ذاك الشعور المركب الذي يعتري المسافرين والمهاجرين ولا سيما اللبنانيين منهم. هو شيء يتجاوز الحنين والعيش مع الذكريات. فكيف إذا كان هذا الوطن هو لبنان؟!

التقينا بسيدة أرمنية لبنانية في السبعينات من عمرها في أحد المطارات الأوروبية، استأذنتنا لتخرق الدور في صف الانتظار الطويل قائلة، “أنا عائدة مع جواز سفري الأميركي إلى لبنان ، ولي إبنان عائدان من فرنسا مع عائلتيهما بعد أن قاما بتصفية أعمالهما هناك. الحياة في لبنان أجمل منها في أي بلد آخر رغم كل الذي فيه”. بل ربما كانت تقصد ، بسبب الذي فيه. فهي ما كانت لتتجرأ على انتهاك القانون وكسر التقليد لو كان الواقفون في الصف من غير اللبنانيين، أو لربما كانت خضعت لقانون يحمي حقوق الكهول فيما لو كانت بين صفوف الأجانب.

“الوطان” مؤلم، وهو ربما يحتاج إلى تسمية أخرى حين يكون السفر قصيراً للسياحة. ويكون أكثر إيلاماً  حين يكون سفراً بحرياً  جوّالاً بين المدن. لا شيء ينقذك من أوجاع المقارنة.  تخرج من مطار بيروت إلى مطارات العالم ومدنه والشوارع والساحات و”الداون تاون” في كل منها، فتحضر في ذاكرتك صورة “رعايا” القوى والدول الخارجية، حملة الجنسية اللبنانية، ممن يستكثرون إطلاق إسم رفيق الحريري على المطار، في حين أنه لا  القتلة ولا الورثة ولا المتفرجون ، لم يضرب أحد منهم ضربة معول واحدة بعد موته، فيما الجهلة من سياسيي الممانعة وأزلامهم والمتأثرين بهم ما زالوا، كسائر الجهلة، غارقين في الاصطفاف المغلوط بين مؤيد للحريري ومعارض، أو بين مجنون بحبه وحاقد عليه وهو  في قبره.

عشرة أيام على متن الباخرة أو في شوارع المدن أو في الحافلات. أربعة آلاف وخمساية هوعدد السائحين وطاقم السفينة والعاملين فيها. “تجمّع فيها كل لسن وأمة، وما يفهم الحداث إلا التراجم”. هي أكبر من قرية وأصغر من مدينة، مدينة عائمة. لا يحول هذا العدد الكبير دون انتظام كل شيء بدقة الساعات. فيها فنادق للنوم ومطاعم  ومسابح وقاعات رياضة ومسارح وألعاب وتسلية ولغات وموسيقى ورقص وسوق تجاري، وبضعة عشر مصعداَ، وحضانات أطفال ومستوصفات صحية وصالونات تجميل وتصفيف شعر. التدخين ممنوع إلا  على سطح السفينة أوعلى الشرفة. الالتزام بالقوانين  أعادني إلى ما قرأته عند أمين الريحاني عن أول حكومة عراقية بعد الاستقلال اختارت من بين بنود برنامجها “النظافة من الإيمان”.

لست أعرف ما إذا كانت قد توافرت  شروط تحقيق هذا الشعار في العراق بعد حوالي قرن على رفعه أول مرة . خلال زيارتنا مدينتين مغربيتين تأكد لنا أنه أقرب إلى الأمنية  منه إلى الشعار. العراق أطاح بكل شيء حين أطاح بالملكية. ملك المغرب قرر الحفاظ على الملكية وعلى المملكة حين فتح أبواب البرلمان وصناديق الاقتراع أمام الحرية، فجاء اليسار الاشتراكي إلى السلطة ودخلت البلاد في الحداثة قبل النظافة. ربما كانوا على حق حين رأوا أن الحداثة تبدأ بالتزام رجل الدين بالقانون، أي بتحويله إلى مواطن وقيامه بواجباته  الدينية بصفته موظفاً يتقاضى راتباً شهرياً، من خزينة الدولة  فيلتزم قوانينها، لا من دوائر الأوقاف كما لدى مشايخ السنة ولا من ميزانيات موازية لميزانية الدولة أو تبييض أموال كما لدى معممي الشيعة.  ومع أن  الملك ينتمي إلى سلالة النبي إلا أنه لا يتصرف بهذا النسب على طريقة “سادة” الشيعة في المشرق. ما يعني أن الدين بشر وعقول قبل أن يكون نصوصاً أو طقوساً.

ترى في مدن المغرب طقوس الدين مقرونة بالحرية. لكل دينه. في طنجة مسلمون ومسيحيون ويهود. محجبات وسافرات معا في شوارع المدينة وحاناتها المختلطة حيث يباح شرب الخمر إلى جانب الشاي. لا أحد يسأل أحداً. يترك السؤال لمن سيحاسب في الحياة الأخرى. السياسي ورجل الدين كلاهما تحت حكم القانون. تستغرب كيف يكون اليساري اللبناني حليفاً لأحزاب ومؤسسات دينية تقمع الحرية وتضع لها حدودا من خارج قوانين الدولة. أجل، هذه من أوجاع المقارنة. ملكيات تدخل إلى الحداثة من باب المساواة التامة بين المرأة والرجل وتمنع، بالقانون، تعدد الزوجات، وجمهوريات “يسارية وطنية” تحكم بالبراميل العلمانية المتفجرة.

في مدن الشاطئ الشمالي للمتوسط كما في مدن الأطلسي تشعر بآلام  من نوع آخر. النظافة في كل شيء. نظافة النصوص والطقوس والبشر والعقول. نظافة هي بنت الحرية مثلما هي بنت الالتزام بالقانون. مدن تعوم على بحر من الحرية بينما تكتظ مدننا باللصوص والمسلحين والقتلة.  شوارع تخلو من صور الساسة والقادة والشهداء وفضاء يخلو من مكبرات الصوت، حيث يتنفس المواطنون والسائحون الحرية بالتساوي. لا أحد يسألك عن دينك وملبسك ومعتقدك. أنت حر بشرط وحيد هو  أن تحترم حرية الآخرين وأن تعيشوا معا في ظل القانون.

إذا كانت النظافة من الإيمان حقاً، نظافة الشارع ونظافة الكف ونظافة العقل،  فذلك يعني أن الإيمان في بلادنا مزيف، وأننا في حاجة إلى حركة إصلاح ديني وسياسي تكشح الفساد والوسخ عن الساسة والمؤسسات الدينية وتجعل الانتماء الصادق إلى الوطن والالتزام الحازم بالقانون شرطين لازمين من شروط الإيمان.

المصدر :

https://www.almodon.com/opinion/2016/7/15/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%81%D8%A9