19 أبريل، 2024

التعصّب أفضل سبل الاقتناع

5-7-2016

يكفيه أن يكون متعصباً لكي يقتنع. لا ينجو من هذه البلية أي متعصب لحزبه أو لأفكاره ومعتقداته، أو المتعصب لشعار أو لمشروع سياسي أو ديني، إتني أو قومي أو أممي. المتعصب مادة خصبة لعلم التحليل النفسي الفردي والجماعي ولعلم اجتماع المعرفة، وهو ما يفيض عن مهمة هذه المقالة التي تحصر اهتمامها بالبراكسيس الميداني والتمظهرات العملية.

ما الذي يقنع الانتحاري ليكون انتحارياً؟ من اسلاميي الدواعش الذين لم تكن “القاع” الباب الأخير لجنتهم المنتظرة، أو ميليشيات حزب الله الذين يقومون بواجب في سوريا يشبه الانتحار؟ أو حتى من الشيوعيين والقوميين السوريين والفلسطينيين الذين اختلفت البرية على تسميتهم انتحاريين أم استشهاديين؟

عشرات الآلاف كانوا يجتمعون حول قصر بعبدا دعماً لميشال عون في حربه ضد القوات اللبنانية، وفي إعلان حربه ضد سوريا واسرائيل وأميركا وكل المعتدين على السيادة. ثم لم يترددوا في التضامن معه حين نفاه النظام السوري ولا في استقباله حين عاد إلى لبنان غداة خروج الجيش السوري، ولا في الاقترع لصالح مشروعه السياسي المستند إلى تحالف وطيد مع النظام السوري، تحالف دشنه بزيارته “التاريخية” لأماكن مقدسة من بينها “براد”، حيث دفن مار مارون، ومكاتب مسؤولي نظام الوصاية الأمني. عشرات الآلاف اسمتروا مع عون اللبناني ومع عون السوري ومع عون الإيراني. لا شيء يفسر ذلك غير التعصب الأعمى.

الجمهور الذي تحمس لبطولات حزب الله في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي فاض، في البداية، عن حدود لبنان، إذ رفعت صور أمينه العام في أكثر من بلد عربي وطالت شهرته الآفاق. بعد أن أقفل ملف الصراع الفعلي العملي مع اسرائيل، وزج بمقاتليه في سوريا وسواها انفضّ عنه معظم جمهوره وتقلص إلى حدوده الدنيا. البعض الذي ظل على اقتناعه بسياسة الحزب لم تبدل في اقتناعه كل التحولات، من اقتناعه الراسخ بأن هدف نظام الوصاية هو السيطرة على لبنان بما وبمن فيه من قوى ومؤسسات، ما جعله يدفع الثمن عشرات الشهداء في ثكنة الله وغيرها، ويتمرد على المشاركة في حرب المخيمات إلى جانب حركة أمل، حتى اقتناعه بالدفاع عن النظام السوري. ومن اقتناعه بأن العدو هو إسرائيل حتى صارت داعش والتكفيريون العدو رقم واحد، ومن أن السلاح لتحرير الأرض حتى السلاح دفاعاً عن المرشد، مروراً بالسلاح دفاعاً عن السلاح، ودفاعاً عن المياه الجوفية وعن النفط البحري وعن 10452 كيلومتراً مربعاً، ومن الحرب في سوريا دفاعا عن الشيعة ومقدساتهم قرب دمشق حتى التورط في حروب حلب وأقصى الشمال والحدود مع تركيا، ومن التحضير لعمليات في الجولان ضد إسرائيل حتى التنسيق غير المباشر معها بواسطة النظام الروسي، ومن المال النظيف إلى الاعتراف الصريح بأن مال حزب الله وطعامه وشرابه من إيران، أي من موقع الدفاع عن التراب الوطني إلى الاصطفاف جندياً منضبطاً في جيش دولة أجنبية. إنه التعصب المذهبي.

الشيوعي، وليس كل شيوعي، الذي شكا من ظلم النظام السوري والمقتلة المتمادية بحق قياديي الحزب ومقاوميه في منتصف الثمانينات، راح يدافع عن النظام السوري وعن القتلة، وهو نفسه الذي تربى على شعار حركة التحرر الوطني العربية وقف ضد شعوب نشدت التحرر من الاستبداد، وهو نفسه الذي قاتل “عدوه” الكتائبي والقواتي في بداية الحرب الأهلية ومضى تحت راية شعار عزل الكتائب، هلل، غداة الطائف، لزيارة جورج حاوي التاريخية لسمير جعجع ولشعار المصالحة التاريخية مع الكتائب والقوات، ثم ما لبث أن استعاد لغة الحرب الأهلية ضدهما. أنه التعصب الايديولوجي.

الجمهور ذاته الذي تضامن مع عون ضد تطرف القوات اللبنانية، ظل متضامناً معه ضد سياسة الاعتدال التي طرحها جعجع من غير أن ينجح في تعميمها على محازبيه. هذا ما يفسر ظاهرة متطرفي الخندق الواحد، “العدو عدو الكار”، بحسب المثل اللبناني. إنه تنافس على تطرف مكبوت سرعان ما يطفو على السطح عند أول مناسبة كمناسبة القاع. إنه التعصب الطائفي.

ذروة الاقتناع “الجماهيري” عن طريق التعصب تتجلى في تظاهرات اللبنانيين ضد الفساد والمحاصصة وسرقة المال العام ثم في تعليق بعضهم الآمال الطويلة العريضة على مفاوضات نفطية بين مسؤولين في السلطة ليس النفط من اختصاصهم ولا يعنيهم من النفط غير شفط المال العام. إنه التعصب الغبي.

على اختلاف أنواعه، التعصب قرين الجهل، ولا خلاص لنا منه بغير العلم والمعرفة، والدرب طويل.

المصدر :

https://www.almodon.com/opinion/2016/7/9/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%B5%D8%A8-%D8%A3%D9%81%D8%B6%D9%84-%D8%B3%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D9%86%D8%A7%D8%B9