21 نوفمبر، 2024

الثورات لها من يروضها

1-1-2015

“كنا في أحلى الفنادق، جرجرونا عالخنادق”. هكذا استشرف زياد رحباني في مسرحية ” نزل السرور” ، عام 1971 جموح الثورة بل طيشها ، قبل أن تنفجر الثورة. لم يكن الحدس الفني كافيا للتخفيف من هذا الجموح ، فاستمرت مصطلحات العنف الثوري متداولة في لغة الخطاب السياسي إلى أن اندلعت الحرب ، ولم تعد اللغة كافية لتصريف ما في العقول من عنف، واستخدمت السلاح.

لم تفاجئه الثورة لكنه اعترض عليها بالسخرية منها ، حتى في اللحظة التي توهم أصحابها أنها لحظة الذروة. الشاعر حسن عبدالله تفاجأ بها واعتقد أن هناك من جاء إلى الوطن ” من وراء المال والألقاب فابتدأ الرصاص” فحاول أن يعترض ، على طريقة الشعراء ” أريد أن أبكي وأطلق ما بقلبي من رصاص ضد هذا الرقص فوق الرمل…” أما مرسيل خليفة فقد غنى للوطن وللمناضلين وللشهداء ، ووظف إبداعه في خدمة الثورة، لكنه، عند أول محطة ، عزف للحب والحرية والسلام.

اعتراض على الثورة والانخراط فيها في آن. هذه هي حال الشعب اللبناني بشرائحه كلها. على محاور القتال كان يفجر المسيحي والمسلم كل أحقادهما الطائفية، وحين يسود الهدوء على الجبهة يعلو نشيد العيش المشترك وقيم التسامح بين الأديان. ما أن عاد نواب لبنان من الطائف باتفاق على وقف الحرب حتى التقى الشيوعي والقواتي في مهرجان مصالحة كبير، بعد معارك طاحنة بين مشروعين محكومين “بتناقض تناحري” بحسب فلسفة اليسار الثوري في حينه.

كل المجتمع شارك في الحرب الأهلية ، الأغنياء مولوها والفقراء كانوا جنودها ووقودها ، الريف الفقير لغزو المدن والأحياء المترفة ، والريف ذاته ملجأ لأهل المدن الهاربين من نيران الحرب المشتعلة في محلاتهم ومساكنهم. النخب كلهم ومنهم المثقفون توزعوا، ما عدا قلة قليلة منهم، على جانبي خطوط التماس، روج كل منهم لفريق انحاز وانتمى إليه.

وكل المجتمع اعترض على الحرب الأهلية ، بمن في ذلك المشاركون فيها. الذي هاجر لم يهاجر خوفا من ويلاتها فحسب بل احتجاجا على العنف المجنون الذي لم يسلم من شره المقيمون. لكنهم، حتى في مهاجرهم، توزعوا على خطوط تماس وهمية، تشبه تلك المصنوعة من أكياس الرمل وركام الأبنية المهدمة. المحازبون أنفسهم اعترضوا، خرج مسيحيون من الحزب الشيوعي متهمينه بالانزلاق في خط سياسي يجمع التظاهر بالعلمنة إلى محاباة المسلمين. المسيحيون حاربوا، موحدين، ضد “الغريب” ثم انقسموا ليحاربوا ضد الحرب أو معها. السنة انخرطوا في معرك الدفاع عن الثورة الفلسطينية والانتماء العربي، ثم في معركة الدفاع عن الدولة والسيادة الوطنية.

حتى الشيعة الذين مشوا عكس السير، شاركوا في الحرب كسواهم، وربما أكثر من سواهم. مشاركتهم الأولى كانت حربا على تهميش أذلهم وأسكنهم في ضواحي البؤس قريبا من مخيمات اللاجئين، وهو ما جعلهم جزءا من مشروع الثأر للظلم اللاحق بأي لاجئ. ثم عبروا مثل سواهم عن اعتراضهم، ثم انقسموا، لكنهم، عندما حطت الحرب أوزارها بزوال الاحتلال الصهيوني، بدل أن يسلكوا سبيل نقد الحرب، حولوا فائض القوة عندهم إلى حروب جديدة داخل الوطن ثم خارجه.

مع ذلك يبقى القاسم المشترك كبيراً جدا. إنه ذاك المخزون الضخم من القدرة على ترويض كل أنواع “الثورات” التي خاض غمارها اللبنانيون ، اليمينية منها واليسارية، الطائفية والعلمانية. كل ثورة جربت حظها وفشلت. الوطن القومي المسيحي انطوت صفحته وانقلبت “العنجهية ” المسيحية خوفا على المصير؛ الاشتراكية انهارت في عقر دارها وتعرضت أحزابها اليسارية والتقدمية المحلية للانقسامات والتشرذم؛ الوحدة العربية تراجعت إلى ما دون القدرة على حماية الوحدة الوطنية في كل قطر من أقطار الأمة؛ حتى الشيعية السياسية التي تتفاخر بأمجاد فارسية ونفوذ ممتد من طهران إلى صنعاء لا بد لها من تحضير نفسها لمرحلة الترويض اللبناني.

صحيح أن عوامل خارجية كثيرة تضافرت لتحمي خريطة لبنان وحدوده الجغرافية، ولتحافظ على الحد الأدنى من مقومات بقائه بلدا موحدا، لكن العامل الأهم هو مقدرة الشعب على التعلم من تجاربه، خلافا لآراء “خبرائه الستراتيجيين” المنتشرين بين وسائل الاعلام، بل مقدرته على ترويض جموح الثورات ومشاريعها.

يدهشك أن ترى كل شروط الحرب الأهلية وعواملها وأدواتها متوافرة، وأن ترى الانقسام الجغرافي والمحاصصات والفساد المستشري وانحلال مؤسسات الدولة، وحكاماُ يمددون ولايتهم على مدى ربع قرن، ويفاقمون الأزمة ويعجزون عن معالجتها … مع ذلك،  يعلن المواطن العادي استعداده للامتثال لمقتضيات القانون حين يفتح باب الحل، ويعرب عن حاجته للدولة ، للدولة بديلا عن الدويلات وللسلم بديلا عن الحروب.

هذا المروض الماهر مستتر في ما يشبه التوافق الضمني على التمسك بهذا الوطن الفريد، مروض يقول لمن يعنيهم الأمر، إن اللبنانيين ما عادوا رعايا واستحقوا أن يصيروا مواطنين، وأن لبنان يستحق أن يصير وطناُ، وأن تدير شؤون شعبه دولة هي دولة الحق، دولة السيادة الوطنية والمؤسسات والمساواة تحت سقف القانون.