25 أبريل، 2024

من هو العنصري؟

8-1-2015

ما أسرع اللبناني في تضامنه مع المظلوم ضد الظالم. مع سوريين بلا مأوى تشردوا بفعل الحرب أو سوريين يخضعون لرقابة مشددة من أنظمة مجاورة، ومع ضحايا العنف الأعمى في فرنسا، ومع ضحايا النازيات أو الفاشيات أو الدكتاتوريات الجديدة أو الوحشيات الدينية غير المسبوقة في التاريخ.

الممانعون هم الأسرع في التضامن، وخصوصا إذا كانت الضحية ضحية الامبريالية والصهيونية والاستعمار، حتى لو كانت من ذوات السوابق في ارتكاب المجازر. فهناك أولويات في العداء، وأولويات في الصداقة، وما زلنا نحن على قواعدنا القديمة، أعداؤك ثلاثة، عدوك وصديق عدوك وعدو صديقك ، وأصدقاؤك ثلاثة، صديقك وصديق صديقك وعدو عدوك، وزؤان بلادك ولا قمح الصليبي، والاستبداد الأخوي خير من الاستبداد الغريب.

تضامن اللبناني مع القضايا العادلة ليس جديدا، من الجزائر إلى فلسطين، وليس جديدا عليه اليوم  تقديم العون لمن يحتاجه، لا فرق بين سوري يموت من الصقيع وآخر من الجوع أو بالبراميل المتفجرة. كل سوري مقيم أو نازح أو مهجر أو مطرود من أرضه يحتاج إلى مساعدة إنسانية ، والتلكؤ عن تقديمها جريمة بحق الانسانية.

هذا ليس صحيحا فحسب، بل إن من ينكر حمية اللبناني وغيرته وكرمه هو جاحد. لكن الصحيح أيضا أن اللبناني، ولاسيما اليساري، يستسهل الخلط بين المفاهيم فيستحضر العنصرية ليرشق بها قرار حكومته أو مواقف معادية للسوريين، أو الخلط بين أشكال التضامن، فيدعو إلى تضامن سياسي حيث الحاجة إلى مساعدة انسانية أو العكس.

لا شك أن بين اللبنانيين من ضاق ذرعا بتجاوزات يرتكبها سوريون هجّرتهم حرب النظام على شعبه، وتبدو كأنها استكمال لفظاعات النظام ذاته خلال عهد الوصاية، لكن موقف اللبنانيين من تلك الفظاعات كان عاقلا جدا واقتصر على الشكوى، ولم يحدث تبدل نوعي بين فترة الوصاية وتلك التي تلت خروج الجيش السوري أو تلك التي أعقبت تدفق النازحين إلى لبنان، الفارق بين أشكال الشكوى لم يكن نوعيا، بل هو لم يتجاوز، في أصعب حالاته، حدود الحوادث الفردية القليلة.

لذلك يبدو الكلام على العنصرية اللبنانية في غير مكانه ومبالغا فيه. وعلى من استخدموه أن يتذكروا تاريخ المصطلح ودلالاته، فهو تعبير عن موقف سلبي من الآخر المختلف بلونه أو عرقه أو جنسيته أو دينه، وقد تجسد،عند ولادة المصطلح،بالعداء للأسود الأفريقي، أو لليهودي في أوروبا. ثم بالممارسات العنصرية لحكومة جنوب أفريقيا ، ثم حين بلغت هذه الآفة ذروتها في السياسة الصهيونية في فلسطين.

ثم عليهم أن يتذكروا موقف التضامن اللبناني السخي من الفلسطينيين، حين بدا ضروة وواجبا على الصعيد الانساني، وهو سخاء لا يشبع جوع المشردين والنازحين ولا يروي عطشهم ولا يكفي لإيوائهم وتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة البشرية. أما على الصعيد السياسي، فقد مضى اللبنانيون بعيدا في سخائهم وجعلوا التضامن السياسي أولوية على حساب السيادة الوطنية، وبلغت مشاركتهم في النضال لاستعادة الحق السليب في فلسطين حد التفريط بوطنهم لبنان.

ثم عليهم أن يتذكروا أن النزوح السوري إلى الأردن أو تركيا لم يتحول، كما هي حاله في لبنان، إلى مشكلة انسانية وسياسية وأمنية، لأنه ظل تحت سيطرة الدولة وإشرافها ورقابتها في كل من البلدين. إن كان لا بد من التفكير بحل الأزمات المترتبة عن علاقة لبنان بسوريا، فمن الأولى إدراج مشكلات النزوح السوري في سياق التدمير المنهجي للدولة الذي أشرف النظام السوري بنفسه على تنفيذه، وأوكل إلى أدواته اللبنانية، في ظل حضوره ثم بعد غيابه، استكمال التدمير، وكان ذلك انطلاقا من عدم التمييز بين تضامن انساني ضروري في حينه وضروري دائما، وتضامن سياسي تجاوز حدوده وهدد المصير الوطني.

والسؤال الذي سيطرح علينا اليوم، مع من سيتضامنون اليوم بعد مجزرة الصحافة في فرنسا، وضد من ؟ وهل سينظرون إلى شكوى الفرنسيين وشكوانا من العنف الديني على أنها تعبير عنصري؟ ربما بات علينا أن نشحن المصطلحات القديمة بمضامين حديثة. لم يعد التمييز العنصري بمعناه القديم هو الخطر على بلداننا وعلى البشرية، بل الخطر يكمن في عدم التمييز بين بشر منتمين إلى حضارة العصور الحديثة ووحوش قادمين من مجاهل القرون الوسطى، الحاملين سيوف الجهل والذبح أو البراميل المتفجرة. الخطر هو الاستبداد، وهو يتجسد، داخل شارع الحمرا البيروتي، أو في شوارع باريس ودمشق وكوباني، وعلى الحدود اللبنانية السورية، في من ينتهك القانون وسيادة الدولة وحدودها ويهدد حياة الآمنين.

بات على المتضامنين أن يميزوا جيدا بين الضحية والجاني. الدولة اللبنانية والنازحون السورين كلاهما ضحية، والجاني واحد هو الاستبداد بثوبه الديني أو القومي أو اليساري. والصحافة الفرنسية ضحية هي الأخرى لأنها تدفع ضريبة الحرية وحقوق الانسان، وضريبة تقصير الحكومات الغربية وإحجامها عن الانخراط بفعالية في الربيع العربي وارتباكها الدائم حيال القضية الفلسطينية.