13 أكتوبر، 2024

درع الطائفية المثقوب

محمد علي مقلد                                                                         2-2-2014

 غريب أمر الطائفية .لأنها أداة يستخدمها فريقان ، الطائفيون وخصومهم من العلمانيين على حد سواء . الفريق الأول للاستقواء بها والثاني لمحاربتها . والأكثر غرابة أن في صفوف الفريق الأول من يتلطى خلفها وهو يزعم وصلا بالعلمانية والوطنية والكونية ، كما أن في صفوفها من يتمسك بها خفية و يتبرأ من الانتماء إليها علنا. في المقابل لا يعرف العلمانيون غير المواجهة المكشوفة معها لأن فيها ، على ما يزعمون ، علة العلل في النظام اللبناني المريض ، الذي تعود جذور مرضه ، بحسب البعض، إلى زمن السلطنة  العثمانية ، بينما يحمّل آخرون المسؤولية للانتداب الفرنسي والاستعمار، ويرى يائسون أن الأمر ” فالج ولا تعالج” .

خصومها صادقون في خصومتها الصريحة، فيما أتباعها أو الصامتون عنها مراوغون ، يضمرون حبهم لها ويخجلون من إعلانه .والظاهر أن المراوغة والكذب في استخدامها أجدى من الصدق ، ما يعني فعلا أنها مرض يصيب حامليها والمدافعين عنها في أخلاقهم قبل أن يصيبهم في سياستهم .   

  هذا بالضبط ما لم ينتبه له العلمانيون الذين تعاملوا مع هذه الظاهرة باعتبارها ظاهرة سياسية تسيء إلى المجتمع فيما هي ظاهرة اجتماعية يتم توظيفها في السياسة، وحين سعوا إلى استئصالها من النظام لم يجدوا آثارها في النصوص الدستورية وفي القوانين ، ما خلا توزيع الرئاسات الثلاث وقوانين الأحوال الشخصية . وحين بحثوا عن علاج لها في النصوص نصحهم المستفيدون منها بالتوجه إلى النفوس.

العلمانيون لم يكلوا ولم يملوا ، إلى أن خرجوا إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة ، ليكتشفوا هناك أن أهل النظام هبوا لمناصرتهم ضد استمرار الطائفية معششة في نظامهم السياسي.ذلك يعني أمرا واحدا وهو أن أهل النظام”الطائفي”  مطمئنون إلى أن الشعار المرفوع ضد هذه الظاهرة لا يشكل  خطرا عليها ولا عليهم ولذلك لم يجدوا حرجا في المشاركة الفاعلة ، وثابروا على أخذ حصتهم في التحرك ” النضالي” ، على عادتهم في المحاصصة  .

ربما صار الأمر يحتاج إلى خارطة طريق أخرى ، أو إلى تشخيص المرض تشخيصا جديدا ، أو إلى التصويب مجددا نحو مكان آخر .

لاشك أن الطائفية متغلغلة في النفوس وفي الاقتصاد وفي العادات والتقاليد وفي كل شيء ، غير أن الدستور اللبناني دستور علماني غير طائفي ينص على المساواة التامة بين اللبنانيين أمام القانون.أو لنقل بالدقة ، إن نظامنا اللبناني علماني مع نقيصتين طائفيتين هما توزيع الرئاسات وقوانين الاحوال الشخصية. وهما نقيصتان لا لأنهما تحيلان إلى انتماءات دينية بل لأنهما تشيران إلى انتهاك مبدأ أساسي من مبادئ قيام الدول الحديثة ودساتيرها وهو المساواة أمام القانون. علتهما إذن في انتهاك القانون، وليست الطائفة هي من ينتهك القانون بل شخص في الطائفة أو أكثر، سياسي أو رجل دين، يجندها وراء مصالحه الشخصية . بسبب هذا الخطأ في التشخيص أخطأنا التصويب ،نحن اليساريين والعلمانيين، وصارت نضالاتنا ضد الطائفية كالسهام الطائشة ، أو هي كانت تخبط خبط عشواء ، فأصابت المجتمع واستعدت الطوائف وبقي المسؤولون عن العلة سالمين في هرم السلطة السياسية يتفرجون علينا ونحن نتواجه مع أهلنا وبيئاتنا .

 أكثر من ذلك . لقد نجح اليسار التقدمي والقومي، بمقاييسه هو، في تعديل الدستور ، وأجبر المعنيين على إدخال بنود عديدة من البرنامج المرحلي للاصلاح السياسي للحركة الوطنية اللبنانية على اتفاق الطائف ، غير أن تطبيق هذه التعديلات تطبيقا مشوها دفع أحوال البلاد إلى تدهور مريع وانحدار سريع من الطائفية إلى المذهبية، وصار التمثيل السياسي على أساسها أكثر سوءا. ماذا يعني ذلك ؟ يعني أننا لم نعالج مكمن الخلل ، ولم نكتشف أن العلة في مكان آخر .هي في نواقص لم ننتبه إلى خطرها، بل لم ننتبه إلى أنها هي الخطر الحقيقي، فحميناها بمجرد التصويب على سواها ، ما جعلها في مأمن ومنحها فرصة التجدد والتطور ، ثم بلغت ذروتها حين توفرت لها بيئة عربية واقليمية حاضنة.

نواقص النظام السياسي ليست في ما أضيف على دستوره العلماني من بنود طائفية الطابع ، بل في ما جرى أختلاسه أو تشويهه أو تحريفه من المبادئ والأسس الديمقراطية المتضمنة فيه ، وهي نواقص لا تحل بتغليب صلاحيات إحدى الرئاسات على أخرى ، على غرار ما حصل في تشريعات الطائف ، ولا باستبدال طائفة الموظف بطائفة أخرى كما ماحصل في تطبيقاته ، ولا بالمداورة  في المسؤوليات الحكومية مثلما حصل في مهازل وزارة الخارجية المتكررة مثلا ، ولا بتصنيف الوزارات بين سيادية وغير سيادية  ، ولا بالتذرع بالمجد المسيحي تبريرا لسلوك لصوصي موصوف …ذلك أن مثل هذه الحلول التي ساهم أهل اليسار في اقتراحها والتي تحمل في طياتها ملامح طائفية أيضا ، وجدت من يمضي بها ، بسبب التشخيص المغلوط لعلتها،  إلى نهاياته الطبيعية ، أي إلى نزاع بين المتحاصصين باسم الطوائف ذهب اليسار ضحيته قبل أن تتم التضحية بالدستور والقانون و مؤسسات الدولة.

 الربيع اللبناني هو ذاك الذي يعيد الاعتبار للتجربة الديمقراطية اللبنانية ويعالج نواقصها ، بعيدا عن أي موقف سلبي من الدولة ومؤسساتها . إن اليسار  الذي كان له الفضل في تعميم قيم جميلة  وسامية في ثقافتنا هو بالذات من أطلق الحملة لتحطيم أسس الدولة ولاقته القوى الأخرى في منتصف الطريق،  من غير أن يكون لدى أي من الطرفين مشروع لإعادة بنائها ، بل من غيرما   اقتناع بأهمية الدولة ، دولة القانون والمؤسسات ، فكان من الطبيعي أن تنحدر الأحزاب اليسارية والقومية والعلمانية ، بسبب نواقص الديمقراطية في سلوكها السياسي وفي بناها التنظيمية  لتلتحق، عند أول منعطف، بركب الاستبداد العربي وتدافع عنه، بعد أن سبقتها أحزاب اليمين إلى استدراج الاستبداد والاستقواء به حماية لمصالحها .

أن علة النظام اللبناني كامنة في الاستبداد المتجسد في السلوك الطائفي لدى أهل السلطة وممارستهم السياسية والمتجسد أيضا في بعض النصوص القانونية ومن بينها قانون الانتخاب . بدل أن نرمي سهاما طائشة ضد الطوائف أي ضد المجتمع  فيسلم الطائفيون الرابضون على صدر السلطة ، فلنجرب التصويب على من ينتهك الدستور والقوانين في كل مراتب السلطة من قاعدتها إلى أعلى الهرم.

في موازاة الشعار العربي ، الشعب يريد تغيير النظام ، علينا أن نناضل في لبنان تحت شعار الشعب يريد تطبيق النظام ، للضغط على أهل السلطة من المحاصصين من أجل صون الدستور والالتزام بالقوانين،   وبعد ذلك  نناضل من أجل التعديلات المرتجاة .