13 أكتوبر، 2024

خطر الأوهام القومية

محمد علي مقلد                                                                          10-2-2014

الحضارة الرأسمالية أنبتت المشاعر القومية فانطبق عليها القول الفلاحي ” استدرجت الدب إلى زرعها”. هي التي أقامت الدولة الأمة \بمقوماتها الأرض والشعب والسيادة . للأرض حدود، والدولة لا تمارس السيادة ،داخل أرضها وداخل حدودها فحسب ، بل على حدودها أيضا ، فتمنع الأفراد أو الجماعات من انتهاك القانون ، وتمنع الدول الأخرى من انتهاك الحدود . وعلى أساس ذلك رسمت الرأسمالية حدود دولها في أوروبا ، بناء على معايير تتعلق بالتاريخ والجغرافيا واللغة والدين ، وخصوصا بالمصالح الحيوية . ومن وحي ذلك ، وانطلاقا من خصوصيات محلية ، رسمت أوروبا الاستعمارية حدودا جغرافية  للدول التي استعمرتها .

ترسيم حدود الدولة\الأمة أمر ممكن ، أما المشاعر القومية فلا يمكن ترسيمها لأنه لا حدود لها غير التعصب وكره الآخر. ولم تنطفئ تلك المشاعر في أوروبا إلا بعد حربين عالميتين وعشرات ملايين الضحايا. أما عالمنا العربي فقد استمر في سباق البدل يحمل راية الحروب القومية ، بأثمان باهظة جدا جدا ، بعد أن توقفت أوروبا عن إشعالها.

 من صراعات الحدود بين الجزائر والمغرب ، إلى صراعات جزائرية بين الإتنيات ، ومغربية مع موريتانيا ، أو نزاعات ليبية بين القبائل وطموحات في تشاد والشمال الإفريقي ، أو صراعات طائفية في مصر وحرب مصرية في اليمن تلبية لنداء الواجب القومي  ، و قبلية ودينية في السودان لم يكن آخر نتائجها تقسيم السودان إلى سودانين، وربما يكون الآتي أعظم، إلى عدم اعتراف بعثي ، في المشرق العربي ، بالحدود مع الدول المجاورة ، مع الشتائم الدائمة لاتفاقيات سايكس بيكو ، لم يكن ثمنا كافيا له لا حرب العراق مع إيران ولا حربا الخليج الأولى والثانية ، ولا التدخل السوري في لبنان لعشرات السنين؛ إلى مجزرة يمنية جنوبية وحروب بين اليمنين ، إلى تهديد دائم بتناقضات إتنية وطائفية ومذهبية وقومية كامنة هنا وهناك من المحيط إلى الخليج ، ناهيك عن تداخل حدود الأمتين العربية والاسلامية وتشابكهما في مخيلة أصحابهما أو في أوهامهما القومية التي تحولت إلى ولاّدة حروب دائمة بين الأحزاب داخل كل دولة أو بين الأحزاب والدولة . كل ذلك بفعل مشاعر الانتماء إلى أمة أو جماعة قبلية أو اتنية أو طائفية أو حزبية ، وهي مشاعر طبيعية وصحية إلا في حالتين : حين يتحدد الانتماء بصفته عدوا لانتماء آخر ، وحين يتحول إلى مشروع سياسي ما فوق وطني أو ما دون وطني  .

الحالة الأولى طاغية طغيانا كاسحا في عالمنا العربي ، ذلك أن المشاعر القومية لم تنشأ إلا على أساس العداء للآخر ، ولم تتوقف حدود الآخر عند الاستعمار والصهيونية ، بل ارتسمت حدودها خصومة وعداء مع أي آخر ، حزبا أو قبيلة أو طائفة أو نظاما، وصارت هي الناظم للعلاقات بين القوى السياسية داخل كل دولة ، فتشابك الحابل بالنابل وتحول الاختلاف من حق طبيعي وعنصر غنى ليصير الطريق الأقصر إلى الحروب الأهلية .

في الثانية قليلا ما اقتنعت الأحزاب القومية والدينية بفكرة الوطن ، لأن المفضل لديهما فكرة الأمة . الأمة العربية ، أو الإسلامية أو الأممية الاشتراكية. وكان ذلك سببا إضافيا لحروب أهلية بين قوميات متنازعة دارت رحاها في أرجاء الأمتين العربية والاسلامية منذ سنوات الاستقلال الأولى ، من باكستان والهند حتى السلفيات والاصوليات وحروبها المعاصرة في يوغسلافيا والشيشان وأفغانستان ونيجيريا والجزائر وسوريا ومصر وإيران واليمن وفي الإرهاب المتنقل في كل مكان على أيدي متعصبين لمشاعرهم القومية ، ومن المؤسف أن أغلبيتهم الساحقة ذات منابت دينية ، وإسلامية على وجه الخصوص .

بهذا المعنى يمكن أن يكون ذلك مفتاحا لتفسير ما يحصل في بلدان الربيع العربي ، ذلك أن من أولويات الربيع استبدال الأنظمة التي استأثرت بالسلطة عشرات السنين وابتكرت الذرائع لاستبعاد الآخر وأحيانا لاستئصاله سياسيا، مستخدمة كل وسائل الاستبداد والبطش والعنف ، من أجل بناء بديل يقوم على الديمقراطية ، وتعريفها الأساس : الاعتراف بالآخر . وبهذا المعنى أيضا ، فالربيع ليس حاجة للأوطان والدول فحسب ، بل هو حاجة للأحزاب والتيارات السياسية أيضا ، من أجل أن  تتسع أطرها وقوانينها لاحترام حق الاختلاف .

الربيع العربي ثورة على التعصب الشوفيني ، الديني منه أو القومي أو السلطوي أو الحزبي . ومن يحشر نفسه في الربيع ليستبدل استبدادا بآخر وتعصبا بآخر إنما هو جزء من ماضي التخلف لا من مستقبل الحضارة.