25 أبريل، 2024

القيصر السوفياتي

9-10-2014

                                                                                                                   مع الانهيار الكبير عادت روسيا إلى تاريخها المزدوج ، القياصرة والكنيسة . من الطبيعي أن يحصل ذلك في روسيا لكن من الغريب حصوله في البلدان والاحزاب التي دارت في فلك الاتحاد السوفياتي ، ولا سيما بلداننا العربية . مصدر الغرابة أن هذه البلاد التي لم تعرف في تاريخها قياصرة، فوجئت أن لأحزابها ” التقدمية ” قياصرة و “كنائس وكتبا مقدسة وطقوسا وشعائر” أعفتها من عناء البحث عن قياصرة في تاريخها القديم أو الحديث  ، وجعلتها ترتمي في أحضان رهبان تحول بعضهم إلى رؤساء أو أمناء عامين يشبهون فروخ القياصرة .

أول مكان يزوره السائح في موسكو هو الساحة الحمراء وقصورها ، تماما كما تقصد الأهرامات في مصر .  تبدل الكثير في أحوال الساحة ولم يبق غير جثمان لينين مسجى في متحفه الخاص ، وتقلصت من حوله مهابة المقام وهيبة الحراس المنتقلين من صمت التماثيل إلى دماثة المرشد السياحي . ربما صار أقل أهمية من الكاتدرائية المجاورة ، بالرغم من الصفوف الطويلة الساعية إلى التعرف على ذاك الذي دخل في الذاكرة القصيرة ، بعد أن صنع ثورة اكتوبر.

الباحات ما بين قصور الساحة الحمراء كلها صارت مزارا بعد أن كان الدخول إليها حكرا على   الموظفين ورجال الأمن وأهل القصر .  لكن حركة السير في الطرقات من حولها كانت تتوقف ، تماما كما في بلدان الحروب الأهلية ، لدى دخول القيصر الجديد وخروجه من قصر الرئاسة المبني بالحجر القرميدي منذ أيام روسيا القيصرية . اما الأبنية الأثرية المحيطة بالساحة فصارت متاجر كبرى كما في سائر البلدان الرأسمالية .

كلفة الربيع في موسكو لم تكن كبيرة بالقياس إلى كلفته  في العالم العربي التي لم تبلغ مداها النهائي  بعد . مئات في روسيا وقيل عشرات . أما في سوريا فمئات الآلاف ومثلها في العراق . قيل إن روسيا وسائر بلدان المعسكر الاشتراكي كانت شبيهة في تخلفها ببلدان العالم العربي . نظام قيصري ينتمي إلى حضارة العصر الاقطاعي ، حين دعاها لينين إلى التحول نحو الاشتراكية . ما يعني أن الستالينية  لم تكن عسفا واستبدادا فحسب بل كانت، إلى جانب ذلك ، تمرينا ديمقراطيا باهظ الكلفة ، وحين آن أوان الربيع اكتشف الروس أنهم كانوا قد دفعوا مسبقا بعضا من كلفته ، وها هم اليوم ، في أيام القيصر الجديد ( يشبه بن علي والأسد والقذافي في الحكم الوراثي أو الأبدي ) يكابرون على دفع ما تبقى من أثمان الديمقراطية .

السياحة في روسيا تقفز فوق المرحلة السوفياتية . يأخذونك إلى قصور قياصرة  تحولت كلها ، أو إلى كاتدرائيات تحول بعضها، إلى متاحف .تحملك عظمة القصور وما فيها على المقارنة . أحد أغنياء روسيا بنى متحفا وجمع فيه لوحات فنية وتماثيل ، تيسر لي أن أجول في خمس وخمسين قاعة فحسب ، ملأى باللوحات والجداريات التي تولت الحكومات حمايتها ورعايتها . المتحف المشابه الذي أسسه أحد أغنياء مصر سطا عليه السادات وجعله  مقرا له ولعائلته ولضيوفه ، يهدي كلاً منهم في نهاية الزيارة واحدة من لوحاته .

سألنا المرشد السياحي عما إذا كان القصر الشتوي في لينينغراد ( سان بطرسبرغ ) منطلقا للثورة البلشفية ، أجابنا ، ” نعم ، للأسف “، لكنه لم يبد إصرارا على تأسفه ، لأن المرحلة السوفياتية ، في نظره، لم تكن سيئة إلا لناحية غياب الديمقراطية والحريات العامة ، خصوصا أن الضمانات الاجتماعية في الطبابة والتعليم والنقل العام التي حققها النظام السابق ، تمت المحافظة عليها ، حتى الآن ، في ظل النظام الجديد .

 شعب يعتز بتاريخه ، لم ينهزم أمام أي غاز . بل هو الذي هزم نابليون وهزم هتلر ، ولا ينتقص من انتصاره في المرتين إحالة هذا الانجاز إلى عامل الطقس والثلج الذي كان فوق احتمال الغزاة ،  ويفاخر بأن له أيادي بيضاء على أوكرانيا ، التي حررها الجيش السوفياتي مرتين في الحربين العالميتين الأولى والثانية ، وحين صارت جزءا من الاتحاد السوفياتي أهداها شبه جزيرة القرم التي  كانت جزءا من روسيا  . ربما بسبب ذلك يرى له حقوقا عليها ويتهمها بنكران الجميل . مع ذلك يتحفظ المواطن الروسي اليوم على تدخل حكومته في الأزمة الأوكرانية .

السياحة في روسيا كما في كل بلدان العالم تؤرخ لحضارة الملوك والمعابد . أي سر فيها ؟ أينما ذهبت من أقاصي الشرق حتى المحيط الأطلسي ، لا شيء غير المعابد والكاتدرائيات وقصور الملوك . تشذ حضارة المسلمين عن صنع هذا النوع من الآثار ، وليس قصر الحمراء في الأندلس إلا الاستثناء الذي يثبت القاعدة . هو سليل نتاج القصور والكنائس في الغرب. أما الاهرامات فهي من سلالة حضارة سابقة على الديانات السماوية وغير السماوية ، حضارة كان فيها الفرعون بمثابة الإله ، وبعده صار الحاكم خليفة الله أو ممثله على الأرض .في عالمنا العربي لم يبق من تلك الحضارة إلا الاستبداد وبعض مقامات دينية فيها من البذخ والقبب المذهبة أكثر مما فيها من فن .

الحقبة السوفياتية حاضرة بقوة في المترو . محطات هي كالمتاحف في ضخامتها وفي ما تحويه من منحوتات ولوحات فنية تكتب تاريخ الثورة البلشفية . وأتيح لنا أن نتسلل من خارج البرنامج الذي ترسمه شركات سياحية خاصة ، إلى حديقة الجمهوريات السوفياتية  (ربما لأنها قيد الترميم ) التي تضم مباني رمزية يمثل كل منها جمهورية من جمهوريات الاتحاد، إضافة إلى مبان أخرى للفنون ، منتشرة كلها في حديقة شاسعة مزينة بعشرات نوافير المياه الضخمة التي تشكل كل واحدة منها ، وقت ذروة تشغيلها ، لوحة من أجمل اللوحات الفنية .

لوحات النوافير التي لا تقل جمالا ، والتي يعمل بعضها بقوة دفع الجاذبية فحسب ، أي من دون كهرباء، موجودة في “القصر الشتوي” الذي لا يغيب اسم كاترين الثانية عنه . ملكة من أصل فرنسي حفظت تاريخ بلادها في الفنون والآداب ، وجمعته في قصورها في واحدة من أجمل مدن أوروبا ، سان بطرسبرغ ( لينينغراد)  التي استعادت اسمها بعد انهيار منظومة البلدان الاشتراكية .

أينما ذهبت في بلاد العالم تجد حكاما لهم ما لهم وعليهم ما عليهم . إلا الذين يربضون على صدر أمتنا و أوطاننا ، فهم مشغولون بتكديس الثروات أو بتنظيم الحروب الأهلية ، والبدائل الأصولية مشغولة بتحطيم التماثيل ونهب المتاحف وتدمير الثقافة  وشطب الفنون من التاريخ .

 ثم نتأسى على ضعف السياحة في بلادنا .