8-10-2012
نشرت في الحوار المتمدن
“القمر بيضوي عالناس والناس بيتقاتلوا”
لأول مرة يتحول الاختلاف إلى خلاف. كان يقتصر الأمر على التلاعب ببداية الشهر وأو بنهايته. وغالبا ما كانت المؤسسة الشيعية تحرص على الصوم يوما إضافيا ،لكن مفاعيل هذا التمايز ظلت محصورة في إطار التندر الشعبي والسخرية غير اللاذعة ، ومضبوطة تحت سقف قوانين الدولة . شيئا فشيئا اشتد ساعد الشيعية السياسية فصار المجلس الاسلامي الشيعي ينتظر قرار دار الإفتاء السنية أو رأي المرجعية الشيعية غير الرسمية ( السيد فضل الله ) ليتمايز عنهما ، ثم ليدفع المسألة إلى أول درجات الخطورة على سيادة القانون ، فينتزع قرار التعطيل الرسمي في إدارت الدولة ومؤسساتها من رئاسة الحكومة التي انحصر دورها بالمصادقة على قراره .
سال حبر كثير ولم يتبدل شيء ، بل زادت الأمور تفاقما مع بلوغ الصراع السني الشيعي ذروته بين داعش وولاية الفقيه. مع كل هلال ديني يتجدد الحديث عن هرطقة رجال الدين في مسألة علم الفلك وعن الضرورة في أن تتولى الدولة ، لا المؤسسات الدينية ، تحديد ولادة القمر.
المساجلة مع متدينين متباينين في مستوياتهم الثقافية ، وافقوا على جعل اليوم الأول يوما للإفطار ، تعبيرا عن عدم تزمتهم الديني، وأرجأوا العيد وطقوسه لليوم الثاني، التزاما بمقتضيات التزمت السياسي ، أو رضوخا لها ، تعبر عن مستوى ما وصل إليه التعصب للأفكار والدفاع عنها خلافا لكل قواعد المنطق .
قلنا إن ما يرى بالعين المجردة ليس هلال رمضان بل جهل المختلفين على تحديد يوم العيد. العقل الداعشي الذي يحطم رموز الحضارة هو ذاته الذي يحتقر العلم والمراصد .
رد أحدهم قائلا إن مسألة الهلال علمية فقهية بمعنى أن هناك هلالا فلكياً وهلالا شرعياً. وقال آخر بوجوب التمييز بين العقل الداعشي والعقل الشيعي . وقال ثالث شيعي ، ، إن أي خلاف على رؤية الهلال أو عدم رؤيته، أو على وسيلة الرؤية، بالعين المجردة أم بالمراصد والمناظير يبقى قابلا للنقاش، أما ان يدعو المفتي (الاعتراض على رأي المفتي السني) لإلتماس الهلال بعدما اكدت المراجع العلمية (لا المراجع محددة ولا درجتها العلمية ) إستحالة الرؤية، فهذا إستخفاف بالعقل ما بعده إستخفاف
في مسألة حركة الكواكب والنجوم، الجهل واحد ، داعشيا كان أم شيعيا ، وبعد غاليليه بات على رجال الدين ، بكنيستيهم المسيحية والاسلامية ، أن يتقيدوا بأحكام العلوم الوضعية .فأي علم يقين هذا ، الذي يعتمد على الرؤية البصرية المحدودة ، في حين لا تتمكن غير المراصد من أن تحدد لنا لحظة ظهور القمر في أية بقعة في العالم . أيا يكن رأي رجال الدين …. فالأرض هي التي تدور ، (رحم الله غاليليه) وعلم الفلك أصدق من علم الغيب .
وقال متزمت رابع إن “الاسلام دين الأمة من البعثة الى القيامة ولا يخفى ما ورد في كتاب الله من أنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاه، والمشرّع هو الله الكمال المطلق ، وأما الانسان وعقله ، مهما بلغ ، فهو قاصر حتما عن معرفة الأسرار الكونية…كان علم الفلك شائعا ومتقدما اكثر مما نحن عليه اليوم”
وبما أن النقاش على صفحات التواصل ليس مع الله ولا مع النبي ، فقد صار يلزم أن يناقش المرء الفكرة ويدافع عنها وعن رأيه هو لا أن يكون محاميا عن النص المقدس ولا عن الحديث الشريف . وإن صح أن “كتاب الله لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وأحصاها”( كذا) ، فهذا لا يصح على العقل البشري . وبما أن الكتاب ( القرآن ) ” لا ينطق بنفسه بل يحتاج إلى رجال ” بحسب قول الإمام علي ، فإن تفسيره وتأويله شأن بشري ويحصل حوله خلاف في الرأي بين المؤولين والمفسرين ، وعلى رجال الدين أن يتعاملوا مع القضية من هذه الزاوية ، فكلامهم ، بصفتهم بشرا، ككل كلام بشري ، ليس مقدسا ، وخاضع للنقاش. وإن كانوا زعموا فيما مضى أنهم كانوا يعرفون ما لا يعرفه العامة من الناس ، فمع تقدم العلوم صار كل عالم في مجاله أكثر معرفة منهم ، وبات عليهم أن يتنحوا عن الزعم بأنهم وحدهم يمتلكون مفاتيح العلم … ومفاتيح الجنة .
بلغت المساجلات ذروتها دفاعا عن الفكر الغيبي في محاججة اعتمدت المنطق الشكلي وانطلقت مما يشبه مقدمتين ونتيجة ، على أساس الترسيمة التالية : ” بما ان القرآن هو مصدر كل العلوم ، وبما أن التعمق فيه هو مصدر كل معرفة و بما أن رجال الدين هم الاكثر إحاطة بمحتواه , فهم إذن المرجع الأعلى في الاستفهام عن أمور الدنيا و الآخرة !!! أما اختلافهم في أمور التأويل والتفسير فهو نتيجة اجتهاد ، لهم فيه عند ربهم أجر أو أجران بحسب الإصابة و لا حرج علينا إن أخطأ المرجع !!!”
من أسف ، ليس في المقدمات ولا في الاستنتاجات أي أثر للمنطق . المقدمة الأولى خطأ ( بما أن القرآن هو مصدر كل العلوم ) هذا هو رأي الجهلة من المؤمنين الذين يقرأون القرآن ولا يفهمونه ، أو على الأقل الذين لم يقرأوا كلام الإمام علي عن القرآن “حمال أوجه” . المقدمة الثانية خطأ، (بما أن رجال الدين هم الأحثر إحاطة بمحتواه) . هذا يصح على البعض منهم ، لكن هذا البعض القادر على الإحاطة بمحتوى النص الديني ، ليس ممن يدعي احتكار المعرفة ، بل هم المتواضعون،وإلى أحدهم ينسب القول الشهير ، ” رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي سواي خطأ يحتمل الصواب”. والمقدمة الثالثة خطأ لأن المكافأة بأجر هي لمن يجتهد فيخطئ أو بأجرين هي لمن يجتهد فيصيب . أما المعممون الذين نتحدث عنهم فقد اقفلوا باب الاجتهاد وراحوا يكررون كالببغاء أقوال سواهم من السلف الصالح وأحيانا السلف غير الصالح ، ويكفرون من يختلف معهم بالرأي . والنتيجة التي توصلت إليها الترسيمة خطأ بخطأ ، لأن الحرج يقع علينا ، أيا يكن مرتكب الخطأ ، إنه حرج أمام العلم والحقيقة وربما وجب علينا أن نتذكر دوما حديثا منسوبا إلى النبي يقول فيه لزواره من المزارعين ، أنتم أعلم مني بشؤون دنياكم ، ومن الطبيعي أن تكون معرفتهم بشؤون الآخرة ضربا من ضروب التخيل ، ولا أظن أن مخيلاتهم تفوق مخيلات الشعراء والفلاسفة وسواهم من أصحاب العبقرية.
إن كان هناك من خلاف حقا حول ولادة الهلال ، فمن الحري برجال
الدين أن يضيقوا رقعة الخلاف في ظل الصراع الشيعي السني المستحكم الذي يهدد المشرق
العربي .
المشكلة ليست في الدين بل في رجال الدين .
مقالات ذات صلة
حراك “أبو رخوصة” وحيتان المال
ثقافة الميليشيا
المال الحرام