24 أبريل، 2024

المجتمع مدني ومؤسسساته أهلية

محمد علي مقلد                                                                       28-11-2014

في لبنان مئات المنظمات غير الحكومية، أحزابا سياسية وهيئات انسانية ونقابات وجمعيات وأندية ثقافية واجتماعية وصحية، بعضها مفرط في نشاطه وبعضها ذو تأثير جماهيري واسع، وبعضها ذو تاريخ عريق يمتد حتى مراحل الاستقلال الأولى. مع ذلك يبدو دور المجتمع المدني ضعيفا جدا.

خلف هذا الضعف أسباب كثيرة منها أن مؤسسات المجتمع المدني مبعثرة. وبديلا عن التعاون الضروري والتضامن والتكاتف، خصوصا بين تلك المتشابهة الهموم والأهداف، يسود التنافس على تصدر المشهد، أو على التمويل وعلى التقرب زلفى من مصادره، فيكون التنافس عدائيا في هذه الحالة. وكثيرا ما تكون السلطة السياسية وراء سياسة التمييز والتفرقة بين مؤسسات محظية وأخرى مستبعدة من جنة المساعدات والرعاية.

صحيح أن هذه المؤسسات كلها غير حكومية، لكن معظمها تابع بالولاء أو بالمسؤولية المباشرة لأحزاب السلطة والمرجعيات الطائفية والشخصيات النافذة في الحكومة والمجلس النيابي، ويشكل نظام القرابة وسيلة سهلة للالتفاف على استقلاليتها وإلغاء الطابع غير الحكومي الذي إنشئت على أساسه، وإلحاقها بالتالي إلحاقا غير مباشر بمؤسسات السلطة . هكذا هي الحال، على نحو خاص، في المؤسسات المعنية بالثقافة والصحة والرعاية الاجتماعية،التي يتولى فيها المسؤولية الأتباع أو الأقرباء، فضلا عن الأحزاب السياسية المتحاصصة في السلطة وعن الكثير من النقابات.

 لا ينتظم عمل المؤسسات غير الحكومية إلا في ظل نظام سياسي يحترم الآليات الديمقراطية ويلزم  السلطة السياسية بالاصغاء لصوت المجتمع المدني. بهذا المعنى لا يوجد مجتمع مدني إلا بوجود نظام سياسي ديمقراطي يقر بمبدأ الفصل بين السلطات، ويقر بوجود سلطة رابعة للاعلام وخامسة للمجتمع المدني، وإلا فإن المؤسسات غير الحكومية ستوجه جزءا كبيرا من اهتمامها نحو انتزاع أو استعادة شرعيتها المصادرة من قبل السلطة.

فضلا عن ذلك، أحيط ما يسمى بالمجتمع المدني في لبنان بالتباسات شتى بفعل تداخل الحكومي بالطائفي بالديني، فصار المدني، في نظر بعض الهيئات الدينية مرادفا للعلماني والعلماني مرادفا للالحاد، فيما بدا النظام اللبناني في نظر كثيرين من ناشطي المجتمع المدني نظاماً طائفياً من غير أن ينص الدستور على دين الدولة، مثلما هي الحال في الكثير من الدول العربية والاسلامية، أو بدا نظاماً عسكرياً لكثرة المتعاقبين على رئاسة الجمهورية من قيادة الجيش، أو بسبب تحويل النظام المسمى برلمانياً ديمقراطياً إلى نظام أمني محكوم بما يشبه الأحكام العرفية، بعد أن سبق تحويله ، بالممارسة، إلى ما يشبه النظام الرئاسي، أو لكثرة الحالات التي حصل فيها خرق الدستور وانتهاك القوانين من جانب من تقع على عاتقهم مهمة حماية الدستور والقوانين من أي انتهاك.

التقت كل هذه التعقيدات والالتباسات لتجعل المؤسسات التي تنظم عمل المجتمع أقرب إلى “الأهلي” منها إلى”المدني”، لأنها تشكلت استناداً إلى انتماءات طبيعية عائلية وعشائرية وطائفية، أو لأنها اعتمدت آليات غير ديمقراطية في حياتها التنظيمية الداخلية، وتحولت إلى مؤسسات تتناوب على إدارتها، بالوراثة أو بالتعيين، هيئات تختارها الحكومة أو أحزابها أو الأحزاب المعارضة. وفيما بدا من مظاهر الانتماء إلى الحضارة “المدنية” انعتاق الافراد من انتماءاتهم “الزراعية”، راحت تتكاثر كالفطر مئات الجمعيات العائلية ومن بينها تلك المنتشرة في كل الطوائف والمناطق، وباتت القرابة الدموية أو الطائفية أو الدينية أقوى وأرسخ من رباط المواطنية .

هنالك مؤسسات لا تشكو من أي من هذه العاهات، وهي كثيرة، ومنها من نجحت بالحشد والتعبئة على قضايا وطنية، على غرار ما حصل في مظاهرات العلمانيين المطالبة بإقرار قانون موحد للأحوال الشخصية أو في تحركات هيئة التنسيق النقابية من أجل سلسلة الرواتب. غير أن ما أفشل هذه الهيئات وتحركاتها سببان، الأول يعود إلى الالتباسات المذكورة والتي جعلت المشاركين ينشطون بصفتهم مجتمعاً مدنياً، فيما هم منتظمون في مؤسسات أهلية، أي غير مدنية، أي أنهم لا ينتمون إلى القضية بقدر انتمائهم إلى القوى السياسية التي تمثلهم في السلطة، ووقعوا بالتالي أمام تناقض حاد بين مصالحهم الطبقية ومصالح ممثليهم السياسيين.

أما السبب الثاني فيعود إلى أن التشخيص المغلوط ينجم عنه العلاج المغلوط . فالأزمات المتعددة المالية والاقتصادية والمعيشية والتربوية لن تجد سبيلها إلى الحل إلا بمعالجة الخلل في بنية النظام السياسي، إذ إن سلطة لا تستمد شرعيتها من الشعب لا يمكن أن تعبر عن إرادته أو تستجيب لمطالبه أو تخضع لمحاسبته.

إذا كان الاصلاح “من تحت” ممكنا فمن الضروري بناء مؤسسات مدنية بدل المؤسسات الأهلية، لعل ذلك يشكل وسيلة ضغط باتجاه بناء نظام سياسي جديد على أنقاض نظام لا يحمل من الديمقراطية إلا فولكور الانتخابات الشكلية التي تأتي بممثلين معروفين سلفا، بالتعيين أو بالوراثة ، وآخرها بالتمديد، والتي تغلف الاستبداد المقنع بفلتان الحريات وانتهاك الدستور وسيادة القانون والتفريط بالوحدة الوطنية.

إذا كان الاصلاح من تحت ممكنا، فلا بد من أن تلتقي المؤسسات القائمة الأهلية والمدنية في جبهة واحدة وتناضل من أجل هدف واحد يشكل الحد الأدنى المشترك وقوامه إعادة بناء المواطنية اللبنانية ، وإعادة بناء الدولة ، دولة القانون والمؤسسات.