21 نوفمبر، 2024

ليس يساريا من تطاول على سعيد عقل

4-12-2014

لم يبق قلم لبناني إلا وتغنى بسعيد عقل عظيما من عظماء لبنان ، إلا قلة من يساريين ممانعين وضعوه على مشرحة النقد بالمعايير النضالية وبالعقل المانوي الديني الذي لا توسط عنده بين الخير والشر ولا ثالث بينهما.

قيل ما يمكن أن يقال فيه. شعراء وفنانون وصحافيون، كتبوا عن شعره وجنونه وعبقريته وفرادته.من تلك الأقلام الجميلة والمنصفة ،سمير عطالله :  “آن لي أن أعترف أنني لم أكن أُحب آداب الرجل ومبالغاته. لكنني كنت كلما عُدت إلى شعره، رأيت فيه جمالات المستحيل في ملاعَبة اللغة. كم جعل الاستحالة قافية، أو صدراً. يطوّع القوافي مثل سِوار، ويفرشها مثل قِلادة.” وفي المواقف “غفر له العرب سقوطه السياسي بسبب علوّه الشعري “.

الصحافي علي الأمين قال: “ليس سعيد عقل من صنف البشر العاديين. سعيد عقل  هو اللغوي، العبقري، رمز العنفوان اللبناني، هو الشاعر، وكفى…  فالشعر مملكة سعيد عقل وبه يعْرفُ الشعر وبقامته الباذخة عنفوانا ومعرفة يُعرّف الشعر”

الياس خوري :”كان سعيد عقل مجنوناً بنفسه، يبني طربه الشعري من قدرته العجيبة على التلاعب بالبحور الشعرية والقوافي، ينحت من صخر الكلمات ومن بحر اللغة”

السيد محمد حسن الأمين قال في التسعينيات من القرن الماضي: ” سعيد عقل بيننا ( في الضاحية ) يا لروعة هذه اللحظة”، التي قال عنها الصحافي قاسم قصير: سيبقى سعيد عقل شاعرا عظيما ويبقى حضوره الى الضاحية الجنوبية حدثا رائعا. إضافة إلى نصوص جميلة أخرى كتلك التي كتبها  شوقي بزيع أو عباس بيضون أو جهاد الزين وآخرون.

إجماع على أن سعيد عقل شخص استثنائي بجنونه الشاعري. والشعر لا يقوم إلا على تطرف ومبالغات، وظفها  سعيد عقل في الشعر فأبدع ، ووظفها  في السياسة فأساء.

 في دراستي عن الشعر والصراع الايديولوجي في لبنان ، رحت أبحث عن شعراء انحازوا إلى النازية في خياراتهم السياسية لأرى كيف انعكس انحيازهم السياسي على شعرهم. اكتشفت أن الشعر لا يدافع إلا عن القيم السامية ، ولا يمكن لشاعر يتحول إلى النازية أن يظل شاعرا.

حتى الذين أساؤوا إلى قيم ومثل عليا، كمثل إساءة المتنبي إلى الحرية والمساواة ، عند كلامه عن “العبد والعصا ” ، تخلدت أسماؤهم وبقيت محفورة في سجل العظماء.  ذلك أنه ما من عظيم في التاريخ نال إجماعا من بني قومه . حتى الانبياء ينطبق عليهم ذلك ، وإلا فما كانت البشرية في حاجة لأكثر من نبي واحد. أليس هذا ما شكا منه المتنبي في قوله : “ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهود ، أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود”؟؟

حتى في السياسة، يحفظ التاريخ اسم نابليون بين العظماء مع أنه حول الثورة والجمهورية إلى منصة امبراطورية، كما يحفظ تاريخ مصر دور محمد علي باشا بانياً نهضتها الحديثة مع أنه ارتكب مجزرة بحق المماليك مخالفة لكل معايير الشهامة وحسن الضيافة، والأمثلة كثيرة .

هؤلاء العظماء وسواهم كان لهم خصومهم في حياتهم اليومية . لكنهم ، في مماتهم يتحولون إلى رموز للأوطان والدول والشعوب. هكذا صار الفلاسفة والشعراء والفنانون والرسامون والموسيقيون، صاروا أيقونات تحفظها ذاكرة الجماعة وتستقوي بها .

جبران خليل جبران صار رمزا عالميا رغم التنازع على مصادرته بين كتل وتيارات محلية حاولت أن توظف موقعه الرمزي لصالح مشروعها السياسي الآني. كلمة واحدة عن  ” الشام” دفعت أقلاماً قومية سورية إلى مصادرته، كما حاولت قوى ” مسيحية” الاستئثار به بحجة انتمائه إليها في الدين، وبدا نزوعه إلى التمرد والثورة بمثابة بطاقة انتساب إلى ” اليسار التقدمي”. أما هو فكان أكبر من نزاعاتهم وتنازعهم عليه، كتاباته ترجمت إلى معظم لغات العالم بينما انحدرت لغة المتنازعين عليه إلى حضيض الحروب الأهلية.

السياسة، وخصوصا السياسة اليومية الآنية ، تفسد كل شيء . هذا ما وقع به المنحازون إلى مواقفهم القومية في مواجهة “الصهيونية والامبريالية والاستعمار”، حين راحوا ينبشون من سجلات هذا العملاق كلمة أو جملة أو موقفا ليدينوا سيرته جملة وتفصيلا ولينزعوا عنه تاج الشعر ويلبسوه ثوب التطرف والعنصرية.

لكن ما يثير الغبطة في النفس أن المتهجمين على قامة سعيد عقل لا يحسبون أنفسهم من النقاد أو الشعراء أو الفنانين . إنهم مناضلون يساريون آلمتهم مجزرة صبرا وشاتيلا بحق الفلسطينيين، مثلما آلمت سعيد عقل مجازر بحق لبنان واللبنانيين. ربما كانت الآلام ذاتها أو آلام مختلفة هي التي دفعت الجنوبيين إلى استقبال الجيش الصهيوني بالأرز قبل أن تصليه المقاومة بنارها ، أو هي التي دفعت قوى الممانعة على تكرار المجزرة  بتدمير المخيم.

من لا يعمل على تخليد عظمائه لا يكون يساريا.