13 أكتوبر، 2024

لو أن الحزب مات لما انتحر حسن

محمد علي مقلد                                                                      12-12-2014

“لو مات الحزب لما كان انتحر حسن”، عبارة قالها أحد المشاركين في تشييع حسن اسماعيل المنتحر برصاصة في الرأس. وهو شيوعي من قادة المقاومة الوطنية اللبنانية،شغل اسرائيل وقاوم احتلالها وكبدها الخسائر في عمليات بطولية كثيرة،إلى أن تمكن منه جيشها واعتقله بعملية إنزال عسكرية استخدم فيها الطوافات، ثم أطلق سراحه في إحدى عمليات التبادل.

العبارة لا تعني أن حسن أراد أن يفتدى الحزب بانتحاره. بل ربما كان العكس ، إن افترضنا أن إعلان موت الحزب كان كفيلا بإنقاذ حسن من الانتحار. وهي ترجمة لعبارة ترددت في الأيام الأولى للأزمة التي عصفت بالحزب والأممية عند انهيار الاتحاد السوفياتي، يوم قيل إن الحركة الشيوعية غدت جثة، وأن “إكرام الميت دفنه”.

في لحظة الانهيار الكبير، توزع الشيوعيون بين ثلاثة تيارات. واحد جرفه الانهيار فراح يحمّل تاريخه وزر المآسي السياسية، و”نظريته” الماركسية التي دخلت إلى وعيه عن طريق الرواية والقال والقيل وزر الأزمة الثقافية، ولم يتحول هذا التيار إلى ظاهرة بل بقي محصورا في أفراد استسلموا لليأس والاحباط ؛ في حين مضى تيار آخر في طريق معاكس، رافضا أي مساس بالتاريخ والتجربة محملا الامبريالية والعدو الطبقي والقومي مسؤولية هزائمنا وانهياراتنا الفكرية والاقتصادية والسياسية، فاستحق أن يرشق بالجمود العقائدي والخطاب الخشبي ، وعلى عكس الأول، فقد تفاقم خطر هذا التيار بعد أن استولى على قيادة الحزب وعطل كل احتمالات التجديد النظرية والعملية وأقفل الباب في وجه أفراد حاولوا من غير أن ينجحوا في تشكيل تيار ثالث ، لا على صعيد الحزب ولا على صعيد الحركة اليسارية عموما.

الانهيار الكبير أسقط القضية التي تمحورت حولها نضالات المناضلين، أي الاشتراكية، غير أن حسن اسماعيل ورفاقا له حجزوا لأنفسهم قضية قدموا لها كل غال ونفيس وتمسكوا بها لأنها إنجازهم ومفخرتهم ، وهي المقاومة . لكن ما حز في نفوسهم وخيب أملهم أفول هذه القضية، هي الاخرى، بعد انسحاب جيش الاحتلال، أو مصادرتها وانتزاعها منهم قبل الانسحاب، فباتوا يناضلون من غير قضية، أو من أجل قضية سواهم، ما أوقعهم في نوع من البطالة النضالية ، بل في حالة انتظارية معتمة، زادها قتامة تهميش حياة المقاومين ودورهم وتحويلهم من أبطال يحملون الوعد بفجر جديد إلى يائسين سدت في وجوههم كل أبواب المستقبل. الانتحار هو أحد خيارات اليأس.

إذا كان موته تعبيراً ضمنياً عن إحباط، فالرصاصة تحمل دعوة صريحة إلى جعل هذا الموت خاتمة يأس يساري طال انتظارها،أو بحثاً عن نقطة البداية لمشروع حل.

لا حل من خارج نقد التجربة، ولا نقد إيجابياً مع أنكار سقوطها المدوي أو مع التنكر لوجوه مشرقة فيها. لم تسقط قيم سامية تتعلق بالعدالة والمساواة، وأحلام جميلة في التغيير والتقدم رسمت في المخيلة، لكن الحياة أثبتت أن الاشتراكية لم تعد، في المدى المنظور على الأقل، قضية مطروحة على جدول عمل التاريخ ، وبالتالي لم يعد هذا العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية. ما يعني أن النضال لم يعد يستهدف تغيير الرأسمالية واستبدالها ، بل التغيير من داخلها ، على الأقل إلى أن يتمكن الماركسيون من إعادة الاعتبار للفكر الاشتراكي، ويفتحوا أفقاً أدى سقوط التجربة الاشتراكية إلى انسداده.

من معاني النضال من داخل الرأسمالية تبديل خارطة الخصومات والعداوات وتبديل آليات الصراع التي ترتبت على وجود المعسكر الاشتراكي ” وعلى رأسه الاتحاد السوفياتي” في مواجهة معسكر الامبريالية وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية. ومن معانيه في بلادنا العربية أن العدو الأكبر المشترك من الخليج إلى المحيط هو الاستبداد، وأن النضال ضد التخلف، وكذلك ضد التدخل الخارجي الاستعماري والصهيوني، هو الذي يصون السيادة ضد أي تدخل خارجي، ويحميها من المساعدات  الخارجية التي تعمل على شرذمة الوحدة الوطنية بدل أن تعززها.

السيادة الوطنية ليست شيئا آخر غير سيادة القانون على الحدود، ضد أية قوة خارجية تنتهكه،  وداخل الحدود ضد من ينتهكه بالفساد والمحاصصة والاستبداد،  وهي لا تتجسد بغير الدولة، دولة القانون والمؤسسات.

 اليسار القديم لم يكن حريصا على السيادة،مع أنه هو الذي أسس المقاومة وواجه الاحتلال ، فهو حمى حدودا وساعد على انتهاك أخرى، ورغب بتوسيعها إلى أبعد من الأوطان والأقطار، مستنداً إلى أحلامه الجميلة بإقامة الدولة القومية أو الأممية. غير أن الأحلام ، بل الأوهام، تبددت، وظل اليسار مكابرا.اليسار القديم مات ، ومثله سيموت كل من لا يحترم الحدود ولا السيادة الوطنية.

اليسار القديم مات. ولأنهم لم يعلنوا موته ولا بشروا بولادة يسار جديد، انتحر حسن اسماعيل. وحتى لا ينتحر مقاومون يساريون آخرون، على اليسار أن يحمل قضيته الجديدة، التي قد تكون مرحلية وقد تكون أكثر كلفة من بناء الاشتراكية، قضية إعادة بناء الوطن والدولة ، وطن السيادة ودولة القانون والمؤسسات.