24 نوفمبر، 2024

فوعة العنف الديني

محمد علي مقلد                                                                  19-12-2014

أسبوع مشهود في مدى انتشار العنف الديني. مجزرة في اليمن وثانية في بيشاور ضحاياهما بالعشرات وثالثة في أستراليا، ورابعة وخامسة وعاشرة على أرض دولة الخلافة، ضحاياها بالمئات، و أحداث دموية في كل مكان تتحرك فيه أصولية اسلامية ، تحت أسماء شتى ، نصرة وداعش وبوكو حرام وجهاد وتوحيد اسلامي وكل ما استحضر من ذاكرة سلفية على امتداد القرون، بعصرها الذهبي أو بعصور ظلامها الطويلة .

دول وقادة وجنرالات ومفكرون يبحثون جميعا عن معنى هذه الظاهرة وعن غاياتها واستهدافاتها ، وأطنان من التحليلات تراكمت عبر السنين. منذ قرنين ونصف، أي من ظهور الحركة الوهابية، أول حركة سلفية في سبعينات القرن الثامن عشر حتى آخر نسخة من الأصولية الداعشية، مرورا بكل حركات الاصلاح الديني المتزمت منها والمنفتح لم يتوصل المعنيون ، علمانيين ودينين ، مدنيين وعسكريين، مفكرين وباحثين وسياسيين ، لا إلى تشخيص سليم ولا إلى علاج ناجح. بل إن بعض التحليلات كانت لا ترى في الظاهرة الأصولية أعراض أزمة بل باب ضوء للخروج من نفق التخلف المستدام.

على امتداد تلك المرحلة الطويلة ظلت تتعايش منظومات فكرية واقتصادية وسياسية متباينة تنتمي إلى عصور مختلفة وحضارات مختلفة. ما يحصل في بلادنا حصل في الغرب، حتى نكاد نقول من غير مبالغة كبيرة أننا ننقل عنهم تجربتهم حرفا حرفا. في نهاية القرن الخامس عشر( 1492، وهو عام سقوط الاندلس واكتشاف أميركا) بدأت تنشأ حضارة جديدة في أوروبا ، أطلق عليها لاحقا إسم الحضارة الرأسمالية، وراحت هذه الحضارة تبني عمارتها الجديدة في ظل صراع مع “سلفها” حضارة العصور الاقطاعية، ولم يكتب للحضارة الجديدة النصر على سابقتها إلا حين أعلنت البشرية “قطيعة”، بالمعنى الفلسفي للكلمة، مع كل البنى القديمة، ولا سيما منها السياسية ، وكان عنوان هذه القطيعة، كف يد الكنيسة عن التدخل في حياة الناس اليومية ، مع تعهد المؤسسة السياسية ، أي الدولة الحديثة ، بحماية الدور الذي تلعبه المؤسسة الدينية في التربية الروحية للبشر.

حين بدأت الرأسمالية تغزو بلادنا، رحنا نشحن الصراع معها بمضمون مختلف ، مع أنه صراع من الطبيعة ذاتها ، بين حضارتين . فبدل أن يكون العدو هو التخلف المتراكم منذ قرون والاستبداد المرافق له ، وبدل البحث عن سبل للدخول في عصر الحداثة ، وبدل صنع هذه القطيعة ( مفهوم وضعه الفيلسوف الفرنسي باشلار) اختارت السلطات السياسية العربية التعاون والتحالف مع الأصولية الدينية ضد خطر تولت هي تعيينه في البداية، ثم وافقت عليه وتبنته في وقت لاحق الأصوليتان القومية واليسارية ، فصار الخطر هو “الغرب المادي المسيحي الملحد” في نظر الأولى، و”الاستعمار الغربي الرأسمالي والامبريالية” في نظر الأخريين.

انحرف الصراع عن مجراه الطبيعي بين حضارتين ومنظومتين من القيم ونمطين مختلفين في الاقتصاد والسياسة والثقافة، فتحصنت المؤسسة الدينية بالدين وبسائر الايديولوجيات “المكافحة” وجعلت نفسها شريكا ومنافسا على تبوء موقع في المواجهات مع عدو مشترك جعله العقل الأصولي “عدوا خارجيا” على الدوام.

مصلحون كثيرون ركزوا على الخطر الداخلي(الاستبداد) وظل كلامهم صرخة في واد. الشاعر محمد الماغوط أشار إلى ذلك في قوله: “أنا لم أكن قطعا مربوطا إلى رحمي بحبل صرة بل بحبل مشنقة”. أدونيس أسهب في الكلام عن سيطرة الثابت على المتحول، حتى أنه تحفظ على ثورة تخرج من المساجد. صادق جلال العظم أضاء على خطر الفكر الديني ( وليس الدين) منذ ستينات القرن الماضي، فلاسفة ومفكرون وباحثون ، حسين مروة ، الطيب تيزيني ، محمد عابد الجابري ، محمد أركون ، جورج طرابيشي ، وغيرهم عشرات ، كلهم أشاروا إلى خطر الأصولية ، لكنهم رأوا بعين واحدة فلم تشمل إشارتهم جميع الأصوليات، ولم ينتبهوا إلى أن خطرها واحد ، دينية كانت أم قومية أم يسارية.

“القطيعة” وضعت حدا لتدخل الكنيسة في الشأن اليومي من حياة الناس. هذا هو المعنى الفلسفي للمصطلح. أما المعنى السياسي فيحيلنا إلى قيام الدولة الحديثة التي وضعت حدا للاستبداد، ونقلت أنظمة الحكم من صيغتها الوراثية إلى نسختها الديمقراطية وعنوانها حكم الشعب، وهي التي حصنت القطيعة بمعناها الثقافي ، فنقلت العقل البشري من العلوم الغيبية إلى العلم الوضعي.

لي صديق معمم يبعث لي كل يوم تحية صباحية فيها نصيحة أو كلام مأثور أو حكمة. آخرها كان هذا النص : ” لماذا تمعن التفكير في أمور الدنيا، والله ولي التدبير؟ ولماذا القلق من المجهول، وكل شيء عند الله معلوم؟ اطمئن..فأنت في عين الله الحفيظ ، وقل بقلبك قبل لسانك : فوضت أمري لله”.

هذه الطمأنينة ليست بلا عواقب. هي دعوة لسيطرة العقل المستكين (المستقيل بحسب تعبير الجابري) حتى تستمر الدواعش حاكمة عقول المؤمنين ويستمر عصر المجازر سائدا حيث يسود الجهل الديني.

فمتى يقتنع أهل الرأي والحكام وقوى المعارضة العلمانية واليسارية والقومية ومعهم التحالف الدولي بأن الحل يكمن في القطيعة مع كل عقول الاستبداد، فيحصر دور رجال الدين بطقوس الإيمان ، ويحصر بهم الاستنكاف عن التفكير والاكتفاء بالاتكال على الله،  ويترك للدولة إدارة العلاقات بين البشر وللعقل البشري الكشف عن أسرار الكون ؟