21 نوفمبر، 2024

أمن غذائي وفساد سياسي

محمد علي مقلد                                                                      21-11-2014

لو أتاك جريح بحادث سيارة، وأنت طبيب طوارئ في المستشفى، ووجدته بذراع مكسورة ونزيف من فمه ، فمن أين تبدأ؟ هذا ما طرحه على سبيل التساؤل طبيب ماهر، في سياق حديثه عن أهمية تحديد الأولويات وتقديم الأهم على المهم.

أستعير التساؤل وأضعه على طاولة الوزير وائل أبو فاعور، وأجيز لنفسي ، من موقع صداقتي الشخصية والعائلية والسياسية مع معاليه، أن ألفت نظره إلى أن ما أقدم عليه بشجاعة هو أقرب إلى معالجة ذراع مكسورة لمريض يشكو من نزيف داخلي.

من أين يبدأ الاصلاح ؟ من أين تبدأ عملية البناء أو إعادة البناء؟ من أين يبدأ النهوض بالوطن؟ هي أسئلة لم تبدأ مع هذه الحكومة ولا مع جميع الحكومات التي سبقتها منذ الاستقلال والتي تعاقبت على حكم البلد خلال الحرب الأهلية وقبلها وبعدها، بل هي بدأت تطرح على أوطاننا منذ ما قبل ولادة هذه الأوطان ، وهي من سلالة السؤال الأصلي الذي طرحه النهضوي اللبناني شكيب ارسلان: لمذا تقدم أهل الغرب وتخلف سواهم ؟ ومن أين بدأ التقدم ، بل من أين ينبغي أن يبدأ ؟

وليست المرة الأولى التي يوضع فيها ملف الفساد على بساط البحث. مبادرات كثيرة على هذا الصعيد لم تتردد في الاقدام عليها سلطات ما قبل الحرب الأهلية وما بعدها ، وآخرها وليست الأخيرة تلك التي أقدمت عليها إحدى حكومات الشهيد رفيق الحريري، وماتت في مهدها لأن التشخيص المغلوط الذي استندت إليه جعلها تقترح علاجا “إداريا” لمرض الفساد، أي أنها راحت تعالج الذراع المكسورة وأغفلت النزف الداخلي.

أظهرت خطوة الوزير الجريئة حقائق إيجابية يمكن البناء عليها للمستقبل. من بينها الكفاءة في التنظيم والإدارة والتنفيذ ، والصدى الايجابي والتجاوب الكبير والاستعداد الواسع النطاق لاحترام القانون والالتزام بموجباته لدى المعنيين من المواطنين وأصحاب المؤسسات، والمستوى الرفيع من التكافل والتضامن مع الاجراءات التأديبية من جهة ومع المؤسسات الخاضعة للعقوبة حماية لها من الانهيار، من جهة أخرى، الخ. ما يعني أن المجتمع اللبناني تعامل بمسؤولية عالية مع ما حصل، كاشفا، بما لا يدع مجالا للشك، عن أن فشل المعالجات مرتبط بأعطال كامنة في بنية السلطة السياسية لا في بنية المجتمع ، وعن أن أي أزمة تستعصي على الحل يكون وراء صنعها أو التسبب بها أو عرقلة حلها أحد السياسيين، ويتضامن معه ، من موقع المحاصصة سياسيون آخرون.

في المقابل ، من الثابت أن الأزمات في أي قطاع أو نشاط اقتصادي أو اجتماعي أو مالي أو إداري أو تربوي أو ثقافي أو ديني، الخ. التي قد تحتاج إلى معالجات تقنية خاصة في كل حقل من هذه الحقول، تحتاج قبل ذلك، وبالضرورة، إلى حل سياسي، لإن بؤرة الأزمات، على تنوعها، هي بؤرة سياسية، وأن معالجتها من دون السياسة كمثل معالجة الكسر في الذراع قبل النزيف الداخلي، أو كمعالجة أعراض المرض من دون أسبابه.

بهذا المعنى، يكون وزير الصحة قد ارتكب خطأ فادحا يشبه الخطيئة لأن الضجيج الاعلامي الذي رافق العملية بدا كأنه قنبلة دخانية غطت على العلة الكامنة في عجز السلطة السياسية عن معالجة الأزمات الوطنية المتشابكة والمتناسلة، التي تسببت بها كل قوى السلطة والمعارضة، يمينا ويسارا، التي تعاقبت على الحكم منذ الاستقلال، مرورا بفترة الحرب الأهلية، ثم بفترة اتفاق الطائف. وهو بدا كأنه يتسترعلى من يتحمل المسؤولية اليوم عن مفاقمة الأزمة وتعميقها، وهي مسؤولية تقع على عاتق الطبقة الحاكمة وحدها، لأنها هي التي تحمي وتشجع أي صاحب نفوذ على التملص من تنفيذ القانون وانتهاكه، ولأنها هي التي مارست الاعتداء على سيادة الدولة وتفريغ مؤسساتها وتعطيلها وإلغائها وامتنعت عن  انتخاب رئيس للجمهورية وعن إقرار قانون للانتخاب ولم تقصر في انتهاك   الدستور كلما دعتها مصالحها لارتكاب ذلك، مسوغة بذلك لأي صاحب نفوذ بانتهاك القوانين بكل الأشكال المبتكرة.

إن كان لهذه الاجراءات أن تنقذ الأمن الغذائي من الخطر، فمن ذا الذي يضمن حماية هذه الاجراءات والاستمرار في تنفيذها ؟ ومن الذي سينقذ الأمن السياسي والعسكري والثقافي والمالي والإداري والقضائي والدبلوماسي والتربوي، أي الأمن الوطني ،  من خطر فساد أهل السلطة ؟