21 نوفمبر، 2024

محنة الديمقراطية مع اليساريين

   محمد علي مقلد                                                                      14-11-2014

   غداة الانهيارات الكبرى، باتت تكتنف اليسار التباسات شتى تطال هويته وبرامجه النضالية وأطره التنظيمية ، وتطال بالتحديد موقفه من قضية الديمقراطية، فيصبح السؤال مشروعا عن منسوب الديمقراطية في الخلفيات النظرية لدى اليسار القديم  وفي سلوكه .

اليساري العربي، بحسب التعريف القديم، هو الشيوعي في الأساس، ويلتحق به كل منتم إلى حزب سياسي أو حركة ذات طابع ” وطني وتقدمي وقومي “، ما جعل انتماء “الأنظمة التقدمية” العربية وأحزابها الحاكمة إلى عائلة اليسار أمرا طبيعيا.

كانت الأحزاب الشيوعية، وهي تناضل من أجل التغيير، تستخدم مصطلح ” القوى الديمقراطية” لكنها كانت تشحنه بالمدلول الذي يتناسب مع حاجتها إلى تجميع القوى ذات المصلحة بالتغيير، وتغفل المدلول الأصلي الذي انطوى عليه مفهوم الديمقراطية. ثم جاء الملحق اليساري “القومي التقدمي” ليطرح فكرة الحرية شعارا أساسيا من الشعارات الثلاث لدى الناصرية وحزب البعث، ثم ليطور الفكرة ويحولها من حرية إلى تحرر، ويربطها بالحرب على الاستعمار. كان ذلك أول تشويه لمسار النضال من أجل الديمقراطية حين ارتسم العدو عدوا خارجيا وعلى الداخل أن يلتف حول أحزابه ، بل حول قيادة الحزب الواحد ، أسوة بالتجربة الأم في الاتحاد السوفياتي ، التي استنسختها كل أحزاب العالم الثالث في القرن الماضي، القومية والوطنية ، بما في ذلك الأحزاب الدينية المنتمية إلى الاسلام السياسي.

التشويه النظري بدأ من قراءة مغلوطة لفكرة شاعرية لدى ماركس قال فيها أن الانسان لن يعرف حرية طالما الدولة موجودة، وكان يناقش فيها أفكار هيغل الذي رأى أن الحرية هي ما سينتهي إليه التاريخ وأن التجسيد الفعلي للحرية هو الدولة، مدافعا ، يومذاك ،عن قيام دولة الحق.

فكرة ماركس تنتمي إلى حقل الفلسفة وكذلك مصطلح الحرية نفسه. والفلسفة تعنى بالمنهج الذي يهتم بترتيب الأفكار أكثر من اهتمامه بالأفكار ذاتها.غير أن الورثة من الماركسيين ومنتحلي الصفة الماركسية مضوا بعيدا في انتزاع فكرة الحرية من الحيز الفلسفي إلى الحيز السياسي، من غير أي تعديل يناسب هذه النقلة، بحيث باتت الحرية، في نظرهم، مستحيلة بوجود الدولة، أي دولة “البرجوازية” بالضبط التي نشأت في حضن الحضارة الرأسمالية، دون سواها ، وخصوصا دون الدول ” الوطنية والتقدمية “، وباتت مهمتهم الأساسية هي القضاء على هذه الدولة، لأنها دولة البرجوازية واستبدالها بأخرى “تقدمية ووطنية واشتراكية” ، لأن هذه الأخيرة ، في نظرهم لا تنطبق عليها فكرة ماركس الفلسفية ، بل الشاعرية بجمالها.

اختزال مهمة التغيير الثوري بالانقلاب على السلطة واستبدال الدولة ” البرجوازية الرأسمالية الطبقية” بدولة الحزب الواحد هما البداية ، واستتبعهما اختزال الديمقراطية بصندوقة الاقتراع ، ثم ابتداع أشكال عجيبة غريبة للانتخاب، يملى بموجبها على المقترعين مضمون اقتراعهم، وهو ما كان يسمى في التنظيم التوتاليتاري ، المركزية الديمقراطية ، التي اقتبسها النظام المصري أيام الناصرية والبعثي في كل فروعه ونسخه الحاكمة وغير الحاكمة ، وكذلك النظام الإيراني، وهي كلها تمجد صندوقة الاقتراع وتعتبرها المجسد الوحيد للديمقراطية ، في حين أن الاقتراع ليس سوى المحطة الأخيرة من مسيرة الديمقراطية .

المحطة الأولى والأساس هي الاعتراف بالآخر وبالرأي المختلف، وهو ما لم يكن جزءا من سياسة اليسار ولا اليساريين ، الذين فتكوا بخصومهم من اليساريين أولا لمجرد اختلافهم معهم في الرأي أو في الموقف، وجعلوا مصيرهم السجن أو النفي أو الموت. ستالين تعقب تروتسكي حتى أميركا اللاتينية وكذلك فعل مع خصومه كل من نظام البعث أو النظام الإيراني ومثلهما فعلت كل حركات الاسلام السياسي في تاريخها القديم والحديث ، وليس آخرها مجازر دولة الخلافة بحق قرى وقبائل وإتنيات بكاملها.

 صار الفتك بالخصوم هو النهج الذي يتحكم بعقلية كل القوى المناضلة ضد “الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية”،القوى الحاكمة والقوى المعارضة على حد سواء. وما الانشقاقات التي حصلت داخل الحركات والأحزاب “اليسارية والتقدمية والاشتراكية” إلا التعبير البليغ عن أن التنظيم اليساري لا يحتمل أي شكل من أشكال التنوع ، مثله مثل كل تفكير ديني لا يقبل الاجتهاد ، فينبذ كل مخالف ويرميه بالكفر. حتى الاحزاب الشيوعية استخدمت التكفير سلاحا ضد كل معارض.

ربما كان تاريخ اليسار في الشأن المتعلق بموضوع الديمقراطية هو الذي يفشل تحركات يساريين سابقين ، صادقين في سعيهم إلى التغيير، لأنه يضع ديمقراطيتهم موضع شبهة ، ويجعلهم وجها لوجه أمام تحدي إعادة بناء يسار جديد يحترم الديمقراطية ويناضل في سبيلها.