محمد علي مقلد 23-9-2013
اقتبست العنوان من كمال الصليبي. وحفزني النقيب رشيد درباس ( نقيب أسبق للمحامين في طرابلس ) على الكتابة عن صيدا، المدينة التي احتضنت عملي وسكني ونضالي وعائلتي وصداقاتي لأكثر من أربعين عاما، بعد أن قرأت له نصا جميلا عن مدينته طرابلس ( نشر في المدن).. كما سأكتب عن الجنوب الذي انتميت إليه وحملت أعباء قضيته مع أبناء جيلي بفخر، ولم أندم على ما بذلته ،اعتقادا مني أن ما يتعرض له الجنوب وعاصمته صيدا منذ بعض الوقت لن يكون سوى حدث عابر لا يبدل في هويتهما، أو ليس سوى برهة قصيرة من عمر الزمان ، مهما طالت .
مع أنني ولدت وترعرت ، وأمارس حقي في الاقتراع خارجها ( من مواليد جرجوع في قضاء النبطية )، لكنني أشعر بالانتماء إليها ، لا لأنني قضيت فيها أكثر من ثلثي عمري ، في التعليم الثانوي والجامعي ، بل لأن عاصمة الجنوب أشعرتني من اللحظة الأولى أنها تتسع للقادمين ، طلابا وموظفين وتجارا وزائرين وعابرين ، كأنهم جميعهم من أبنائها .
صيدا التي ينسبها الشاعر حسن عبدالله إلى بابل والحلويات وزهر الليمون ، هي صيدا المقاصد والانجيلية والفرير . مدارس ثلاث توزع عليها ، في بدايات القرن الماضي، تلامذة من كل المذاهب ، من لبنان ومن العالم العربي ، أتوا ليتعلموا فيها من سوريا ومصر واليمن ( من بين الأسماء الكبرى المفكر السوري صادق جلال العظم ورئيس الوزراء اليمني الأسبق عبد المحسن العيني) ، مع أنها إنشئت في إطار تنافس بين الارساليات للنهوض بالوطن . لكنه حقا كان تنافسا على النهوض بوطن مستحدث أنعمت عليه اتفاقية سايكس بيكو، رغم كل ما قيل ويقال عنها، باستقلال عن بقايا حكم السلاطين العثماني ، فحررته من التخلف الذي ربض ألفية كاملة على صدر العروبة ، بعد هارون الرشيد وابنيه الأمين والمأمون. حصل ذلك بمنافسة حرة بين رواد النهضة ، جعلت لبنان ، بعد أقل من عقدين ، منارة الشرق ، حتى قيل فيه إنه مطبعة العالم العربي ومستشفاه ودار نشره وجامعته المفتوحة على العلم ومتنفسه إلى الحرية .
صيدا هي التاريخ الذي لم يبدأ مع رياض الصلح ولن ينتهي برفيق الحريري . هي باب البر إلى المتوسط ، منها خرج فخر الدين المعني لينسج مع الجمهوريات \ المدن الإيطالية علاقة من الحرير والزيت والزيتون ، وهي التي بدأت بتصدير إسمها ودورها إلى حوض المتوسط منذ الفينيقيين.
توالى على زعامة المدينة ثلاثة بيوت سياسية ، البزري وسعد والحريري ، فيما تبوأ عشرات الأشخاص مقامات عليا في نهضة لبنان الثقافية والعلمية والمالية والعمرانية من آل الجوهري والبساط والزعتري والبابا ودندشلي ولطفي وقطب وحمود وغيرها من العائلات . وتنافست مؤسسات المجتمع المدني على إحياء النشاطات الثقافية والاجتماعية ، فكانت جمعية الأدب والثقافة وجمعية خريجي المقاصد ، ومركز صيدا الثقافي ومؤسسة معروف سعد والمركز الثقافي للبحوث والتوثيق ، وآخرها منتدى الفكر والثقافة الذي كان نتاجه غزيرا جدا وعمره قصيرا جدا ، الخ.
لم ينتبه أهل المدينة إلا في مرحلة متأخرة ، إلى أن رواد نهضة المدينة في المال والاقتصاد والسياسة كانوا من آل عودة ونمور ودبانه وعسيران والزين ، وأن أوائل الأطباء والمحامين والمهندسين كانوا من مسيحيي المدينة وجوارها ، الذين حافظوا على أواصر حبهم لها ، رغم كل التحولات التي تعاقبت عليها وأدت إلى انهيار معنى الدولة والقانون . الصراع المذهبي المستجد هو الذي جعلنا ننتبه إلى هوية هؤلاء ، أما المدينة فلم يرد في قاموسها أي تمييز بين أبنائها على أساس ديني أو طائفي أو مذهبي.
سيكتب التاريخ أن صيدا حفظت الثورة الفلسطينية وحملت قضيتها وجعلتها قضية وطنية لبنانية، حين كانت سباقة إلى دمج النضال المطلبي الاجتماعي بالنضال القومي العربي، وأن يسار الستينيات والسبعينيات الذي حمّل لبنان فوق قدرته على الاحتمال ، في ظل تواطؤ عربي على الحرية والنظام الديمقراطي في لبنان، كان شريكا لأعداء الثورة الفلسطينية في تقويض مقومات الدولة ، لصالح عقل ميليشيوي حكم سلوك اليمين واليسار والمنظمات الفلسطينية والشراذم اللبنانية التابعة لها أو الخاضعة مباشرة لأجهزة المخابرات السورية. ثم توالت أحداث وقوى أخرى لتكمل عملية تخريب الدولة تولت فيها إسرائيل باجتياحها تغذية الصراع الطائفي ، وتولت بعدها إيران تغذية الصراع المذهبي ، وقبلهما وبعدهما استمر الاستبداد التقدمي البعثي واليساري يعبث بالوحدة الوطنية اللبنانية لحساب ولاءات ومصالح خارجية .
ليس انحيازا إلى انتمائنا اليساري انتماء راسخا ودائما ، قولنا إن الأحزاب اليسارية بدأت نهضتها في الخمسينيات بأحلام جميلة ووحدة وطنية وعلمانية طهرانية ، لكن تحالفها مع الثورة الفلسطينية والنظام السوري لم يكن كله لمواجهة العدو الصهيوني ، بل كان في معظمه تنافسا على السلطة والمكاسب، فبدا كأن التحالف بين هذه القوى يحضر أفضل الظروف للاجتياح الاسرائيلي ، ففي صيدا حدث بصورة نافرة جدا حرق الكنائس في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وفي سائر الجنوب انفجرت حرب أهلية بين قوى مؤيدة للثورة الفلسطينية وأخرى للنظام السوري لم تسلم منها قرية ولا مدينة .
صيدا المدينة الوديعة الأليفة لم تشهد محاكمها أية جريمة قتل ، ولم تسمح قواها السياسية للحرب الأهلية بالدخول إلى أحيائها ، بالرغم من الاختلافات والتباينات في مواقف أطرافها ، ولا استطاعت المغريات الاقليمية والدولية أن تذكي نار الفتنة بين أبنائها بمثل ما أذكتها في تفجير الصراع الطائفي بين اللبنانيين ، أو الصراع داخل الطائفة الواحدة ، على غرار ما حصل في الحرب الشيعية بين أمل وحزب الله ، أو المارونية بين عون والقوات.
الحرص على الوحدة الوطنية في مدينة صيدا تجسد في مواقف الدكتور القوى والشخصيات السياسية البارزة فيها ، الدكتور نزيه البزري والمهندس مصطفى سعد ولاحقا آل الحريري في كل المنعطفات السياسية الكبرى ، وكذلك في التعاون الوثيق بين الرموز الدينية الإسلامية والمسيحية ، خصوصا في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، ولا سيما بين المفتي الراحل سليم جلال الدين والمطران الراحل ابراهيم الحلو والمطران الراحل سليم الغزال والسيد محمد حسن الأمين.
حدثان كان لهما دور في محاولة تشويه وجه المدينة ، واحد خلال الحرب الأهلية كان بمثابة التمهيد للاجتياح الاسرائيلي( حرق الكنائس)، ثم تلاه بعد عامين ما ترتب على الاحتلال من نتائج ، من بينها أحداث أو معارك شرق صيدا ، عندما اجتاحت القوى ” الوطنية والاسلامية ” القرى المسيحية شرق المدينة . أما الحدث الآخر فما زالت جراحه لم تلتئم بعد معركة حصلت منذ فترة وجيزة في عبرا في شرق صيدا أيضا. في المرة الأولى كان تطرف الاسلام السياسي يرد على تطرف القوات اللبنانية ، وفي الثانية كان الصراع بين تطرفين اسلاميين.
في أعقاب الحدث الأول قررنا ، في الحركة الوطنية اللبنانية ، أن نقيم حوارا مباشرا في الأحياء مع أهالي المدينة لنعرب لهم عن استنكارنا للاعتداء على المقدسات المسيحية ، ولنحاصر أي اتجاه أو محاولة لحرف مجرى الصراع مع العدو الاسرائيلي ، فوجئنا في تلك اللقاءات التي عقدت وتحدث فيها مصطفى سعد بأن الحاضرين في كل الأحياء لقنونا درسا في الوحدة الوطنية لن أنساه . قال أحد أبناء المدينة لنا : القضية الفلسطينية قضيتنا قبل سوانا ، نحن أبناء صيدا ، لكننا لا نرضى بأن تتحول القضية إلى كتلة من التجاوزات ، وأن نستخدمها للتحريض على الدولة وعلى أبناء وطننا . نعم نحن مع بشير الجميل إن ترشح لرئاسة للجمهورية اللبنانية الواحدة ولسنا مع دويلات تحكمها وتتحكم فينا ميليشيات ، حتى لو كانت من أبناء جلدتنا وديننا ومنطقتنا .
الحدث الثاني هو ما سمي ظاهرة الشيخ أحمد الأسير التي لم تكن وليدة ساعتها ، بل هي تعبير عن مستوى من التطرف والعنف بلغه الصراع الطائفي بين المسلمين والمسيحيين في منطقة شرق صيدا، أججته القوات اللبنانية خلال الاجتياح بأعتداءات متكررة على كرامات أهل المدينة ، وأذكت ناره الأصوليات اليسارية والاسلامية بعد الانسحاب الاسرائيلي ، لكن عودة الشرعية كانت كفيلة بعودة المياه إلى مجاريها بين صيدا وجوارها المسيحي في قرى مغدوشة ودرب السيم والمية ومية وعين الدلب والهلالية وعبرا وصولا إلى الرميلة في الجهة الشمالية .
وما أن خمد التطرف الطائفي حتى أضرمت نار تطرف آخر ، مذهبي هذه المرة ، بدأ باجتياح الميليشيات الشيعية مدينة صيدا في أحداث أيار 2008 ، بما يشبه الغزو ، ما شكل جرحا معنويا لكرامة المدينة . وقد ظن بعض أصحاب الرؤوس الحامية أن الرد على العنف لا يكون إلا بالعنف ، ومجابهة التطرف لا تكون إلا بتطرف مضاد ، وكانت بعض النفوس مهيأة لمثل هذا المناخ الراغب في استرداد كرامة المدينة ، فوقعت هي نفسها وأوقعت سواها ضحية انسياقها وراء منطق التطرف .
مرة أخرى رفعت المدينة صوتها مطالبة بالدولة ضد كل محاولات الأمن الذاتي الذي توسلته ظاهرة الأسير لبلوغ مراميها . ومرة أخرى تعلن المدينة أنها تلفظ كل صنوف التطرف ، من أية جهة أتت، وأن قضيتها الأولى التي لا أولية سواها هي قضية إعادة بناء الوطن والدولة .
وطن يعيش فيه أبناؤه ، بكل تنوعهم واختلافاتهم الفكرية والسياسية والدينية والعقائدية ، متساوين تحت سقف القانون ، بديلا عن دويلات الأمن الذاتي والميليشيات المسلحة الخارجة على القانون .
ودولة هي دولة الدستور والقانون والمؤسسات وتداول السلطة والفصل بين السلطات والكفاءة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية ، بديلا عن دولة المحاصصة .
مقالات ذات صلة
حراك “أبو رخوصة” وحيتان المال
ثقافة الميليشيا
المال الحرام