19 أبريل، 2024

رسالة إلى الفقهاء

محمد علي مقلد                                                                16-9-2013

هذه الرسالة النداء ليست موجهة إلى أحد ما بالإسم ، بل إلى كل المهتمين بالشأن الديني ، والمتخصصين في حقل من حقوله ، والمسؤولين عن  مدارسه التعليمية أو القيّمين على بيوته  الدينية ، ولا سيما إلى المجتهدين في علوم القرآن والحديث  والفقه واللاهوت والناسوت .

لا دفاعا عن الاسلام لأن من يشكو منهم هذا النداء سيستعجلون رميه  بالشكوك ، ولأن من ترفع الشكوى  إليهم  هم المعنيون قبل سواهم بالدفاع عنه ، باعتبارهم ، نظريا ومبدئيا ، الأكثر حرصا على الاسلام والمسلمين.

لا من قبيل الافتراء على النص الديني في الإسلام ، فهو حمال أوجه ، على ما نسب إلى الإمام علي قوله : “القرآن لا ينطق بنفسه إنما يحتاج إلى رجال” ، يفسرون ويؤولون ويجتهدون ، بل لأن ما يُلحقه مبتدئون في علوم التفسير والتأويل والاجتهاد بالإسلام والمسلمين اليوم من بلاء لا يخفى على مبصر أو حريص .

ولا من قبيل الافتراء على المسلمين، لأن المسيحيين استطاعوا تخليص المسيحية من بلاء محاكم التفتيش القروسطية ، كما استطاع اليهود أن يحوّلوا المحرقة إلى مطهر غطوا فيه جرائم الصهيونية في فلسطين ، فيما لم تنجح كل محاولات الإصلاح الديني منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده حتى محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله وبيانات الأزهر، ويستمر بعض القيمين على شؤون الاسلام والمسلمين ممعنين في تشويه صورة الدين إيمانا وطقوسا وعقيدة.

ليس سرا أن عدد المعممين يتناسب طردا مع نمو الجهل والأمية في العالم الإسلامي ، وأن العدد الأكبر منهم هم من الراسبين في صفوفهم الدراسية الابتدائية أو المتوسطة ، وأن معظمهم لا يتقنون اللغة العربية ، ما يجعل من الصعب عليهم ، إن لم يكن من المستحيل أن يفهموا النص القرآني فهما صحيحا، ولذلك يعملون ، تغطية لجهلم ، على اختزال الدين بمجموعة من الطقوس الجامدة ، من بينها طقوس الموت والزواج ، أو بمجموعة من التعاليم يفرغونها من محتواها الفلسفي ويخالفون فيها جوهر النص الديني .

وليس سرا أن عددا من المعممين والناشطين في الحقل الديني لا يكتفون بمنح أنفسهم المراتب والألقاب ، كالعلامة والأمير والداعية وغير ذلك من صفات ، من غير رقيب ولا حسيب ولا لجنة فاحصة ولا امتحان أهلية ، بل يجعلونها مطية لأهواء ومصالح ومكاسب دنيوية ، أو غطاء لارتكابات أخلاقية واجتماعية وسياسية يندى لها الجبين ، من بينها التحريض الطائفي والمذهبي الرخيص ، فيما لا يتورع بعضهم عن قبول أدوار وضيعة ، تغطية على ارتكابات أهل السلطة السياسية ، أو تنفيذا لأوامر أجهزتها الأمنية  والمخابراتية.

 وليس سرا أن تشريع العنف لغايات سياسية في العصر الحديث قد بدأ مع الستالينية ، واعتمدته أنظمة سياسية توتاليتارية ، فيما عملت على تعميمه وتشريعه في بلادنا تيارات مارست السياسة باسم الدين وأغلقت باب الاجتهاد وفتحت باب القتل على شبهة الاختلاف ومنعا  للتنوع ،أسوة بتاريخ القتل الذي كان سائدا في كل المجتمعات القديمة شرقا وغربا .

لم يحصل ذلك بسبب تزوير مقصود لأحداث التاريخ ، بل لأن بعض من تنطحوا للتفسير والتأويل قرأوا الأحداث والنصوص بعيدا عن ثقافة العصر الحديث ، ولم يحصلوا ، لا من العلوم الدينية  ولا من الوضعية ، على ما يمكنهم من عصرنة الدين ، فلم يعثروا في تراثنا الغني على غير مفردات التكفير والتخوين والردة والقتل يرمون بها كل مخالف لهم بالرأي أو الدين أو العقيدة أو مغاير لهم بالتأويل والتفسير ، ولم تكن التجربة الأفغانية أيام حكم طالبان حدثا عابرا في تاريخ الاسلام السياسي ، بل هي ساعدت، مع غيرها من التيارات والشخصيات في العالم الاسلامي، على تعميم الموقف العدائي من الفن والتراث ومن انجازات الحضارة الحديثة وحقوق الانسان ولا سيما الموقف من الحرية والديمقراطية والموقف من حق المرأة في العلم والعمل أسوة بالرجل ، وعلى تعميم ظاهرة العنف والاغتيال السياسي والعداء للآخر وخصوصا للغرب ، وصبغ العالم الاسلامي بصبغة الارهاب .

فيما تسعى السلطات المعاصرة إلى إلغاء عقوبة الاعدام أو الحؤول دون تنفيذها أو إلى تضييق حالات تنفيذها ، رغم أن الحكم بالإعدام يصدر باسم الشعب والقانون والعدالة ، نرى بعض من يمنحون أنفسهم ألقابا دينية يسيرون عكس تيار الحضارة الحديثة ، فيقرر شخص منهم بمفرده ، مجيزا لنفسه باسم الدين ،  إصدار أحكام بالقتل الجماعي والاغتيال . أي دين يرضى بذلك أو يجيزه؟ أية جاهلية هذه ؟

الأدهى من كل ذلك ، وبصرف النظر عن النقاش الفقهي المتعلق بعلاقة الدين بالدولة ، هو أن الأصوليات الدينية أثبتت ، خلال توليها السلطة السياسية ، أنها فاقت الأصوليات الأخرى القومية واليسارية ، عسفا وظلما ، وهذا ما بينته تجارب أفغانستان والصومال والسودان وغيرها، أو تجارب طالبان والقاعدة وسائر الأحزاب التي صنفت إرهابية ، وذلك لأنها بعثت من تحت ركام الماضي نموذجا للحاكم  بصفته ممثلا الله على الأرض ، بالحاكمية أو بولاية الفقيه ، وأنها راحت تدير شؤون البشر ، في عصر الإلكترونيات ، بعقلية البدو الرحل ، بعيدا عن الأنجازات التي حققتها البشرية في علم السياسة ، ولا سيما الديمقراطية التي  تنطوي ، في أحد معانيها ، على تأمين أوسع مشاركة للناس في إدارة شؤونهم . كما أنها بعثت من رماد الماضي لغة السحر والخرافة وعقلية الأباطيل التي لا علاقة لها بالعقل الحديث ولا بلغة القانون ودولة القانون والمؤسسات .

أيها الفقهاء ، ربما آن الأوان لتقولوا الكلمة الفصل ، تأويلا واجتهادا، دفاعا عن الدين ، ثم دفاعا عن وحدة أوطاننا المهددة بجهل الجهلاء واستبداد المستبدين وتسلط المتسلطين على شؤون الناس في دينهم ودنياهم .