19 أبريل، 2024

وحوش الدين أم ملائكة الرحمة ؟

29-8-2014

 وما أرسلناك إلا رحمة بالعالمين. هذه من آيات الذكر الحكيم والمخاطب فيها هو النبي. بعد ألف وخمسماية عام لم يفهم وحوش التأويل والفتاوى الدينية رحمة الخالق هذه إلا استئصالا لكل من خالفهم الرأي والعقيدة ، من المسلمين وغير المسلمين.

أطلقت وحشيتهم سيلا من التحليلات الأمنية والسياسية والفكرية والفقهية ومن المواقف. من اختار الجانب الأمني مال إلى البحث عن أصل الظاهرة الداعشية ومنشئها وصانعيها ومموليها، وبلغ تشابك الآراء وتعارضها وتداخلها، في هذا المجال، حدا جعلها تبدو على مستوى عال  من السوريالية. هي تارة من صنع النظامين السوري والعراقي ومن ورائهما إيران ، وتارة هي من ثمار الأصوليات الدينية التي تقتات من التمويل الخليجي ، وهي، في نظر فريق ثالث، صناعة أميركية أو تركية، الخ. وعلى كل تحليل يبنى عتب وطلب وتطلق إدانة ثم استجارة .

الكتابات السياسية رصدت هذه الظاهرة ونبشت أصولها في التاريخ وفي الجغرافيا . من العنف في قتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين والعشرات من الخلفاء الأمويين والعباسيين ، والعشرات من الأمراء والولاة ، إلى عنف الحجاج ودفنه الناس أحياء في الكوفة ، إلى عنف الجماعات الاسلامية في مصر ضد السياحة والأجانب والدولة والأقباط والمثقفين ، إلى عنف بوكو حرام في نيجيريا ، والقاعدة وأخواتها في العالم العربي والمشرق الاسلامي، والاعتداءات المسلحة في أفغانستان على الكهرباء والتلفزيون وكل مظاهر الحضارة وعلى مكتسبات المرأة، وصولا إلى عمليات الاستئصال التي تقترفها داعش ومشتقاتها في العراق والشام . الجذور السياسية لهذه الظاهرة هي الاستبداد، ومن معانيه عدم الاعتراف بالرأي الآخر، وبالتالي عدم الأخذ به ثم إلغاؤه ، ومن أهم صيغه وتجسيداته الدائمة إلغاء الآخر كله  إلغاء جسديا ، وهو ما قدم لنا التاريخ عينات منه على امتداد العصور.

 النقاش الفقهي في أصول العنف الديني متاهة يهواها رجال الدين حين يغوصون في بحر التأويلات والأحاديث المعنعنة ويستندون إلى تفسيرات مغلوطة، بل مزورة، لبعض الآيات القرآنية، وإلى نصوص مهجورة، يفتعلون لتناقضاتها وتعارضاتها تبريرات خالية من أي منطق. مثل هذا النقاش معهم عقيم لأنه لا شيء عندهم يعتدون به غير علم  وقدرة  وحكمة هي من صفات الخالق وحده ، ثم يتمسحون بالنبي ويجعلون أنفسهم “ورثة الأنبياء”، استنادا إلى حديث منسوب زوراً إلى النبي، معطوفاً على تزوير القراءة لآية من القرآن الكريم (الآية رقم 7 من سورة آل عمران) يكتفون بقراءة شطر منها( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) ويتجاهلون تتمتها ( والراسخون في العلم يقولون آمنّا …) ليدّعوا ،استنادا إلى القراءة المزوّرة هذه، أنهم يرثون من النبي علاقة مباشرة بالسماء ويساوون أنفسهم مع الله في العلم.

هذه ظاهرة تجد تسويغها وتبريرها في نصوص الأديان أو في طقوسه السلطوية. هذا ظهر بوضوح قاطع في الكنيسة ، على الأقل في مرحلة محاكم التفتيش ، وهو ما يستعاد اليوم دفاعا عن مملكة الاستبداد الديني الآيلة إلى الانهيار أمام طوفان الثورة العربية الأولى منذ الدعوة الاسلامية. ظاهرة الاسلام السياسي وأصولياته المتوحشة هي اليوم صحوة ما قبل الموت، خلافا لصحوتها الأولى منذ قرنين من الزمن قاومت فيهما دخول الحداثة بجميع أبعادها، وشكلت، مع الحركات القومية واليسارية، حلفاً غير معلن ضد الغرب والاستعمار والامبريالية، مثلما تحالفت مع الغرب الاستعماري ضد المد الشيوعي، ولم تكن تملك من برنامج للتغيير غير الدعوة للتمسك بالأصول والعودة إلى مرحلة ” ما قبل العقل العربي ” بحسب تعبير الجابري، وتمجيد النصوص واحتقار العقل .

وحشية الأصوليات الداعشية، على اختلافها، لا تشكل خطرا على فئة من الناس دون سواها ، بل هي خطر على القوميات والاتنيات والمذاهب والأديان التي تخالفها العقيدة والرأي السياسي، وخطر على الحضارة البشرية ومنجزاتها العلمية والفنية والسياسية، وهي تسيء إلى الدين الاسلامي نفسه بصورة خاصة وتشكل خطرا على القيم التي صانته وعممته ونشرته في أصقاع الأرض. لقد حمت الكنيسة الدين المسيحي حين أخرجته من بطن السياسة ومن سطوة الاستبداد الكنسي. هذا ما ينبغي أن تقوم به الهيئات والمؤسسات والشخصيات الدينية المسؤولة عن الدين الاسلامي حتى لا تكون هي الاخرى ضحية وحوش الجهالة الجهلاء.

ليس مطلوبا من الفقهاء والمجتهدين ومن حكومات الدول ذات الغالبية الاسلامية ومن النجف أو الأزهر أو من كل المؤسسات الدينية الرسمية ودور الافتاء أن يصنعوا لوثرا إسلاميا ولا أن يقوموا بثورة دينية ، بل عليهم جميعا أن يصدروا موقفا يدين التطرف الديني ويتبرأ مما تقوم به داعش وكل التيارات الاصولية المشابهة ، ويقدموا صورة نقية عن الدين وعن ملائكة الرحمة ، ويمنعوا على الجهلة استئصال القيم الدينية السمحاء ، وإلا سيكونون مع النص الديني شركاء في جرائم العصر الداعشية  ؟