23 أبريل، 2024

حاجتنا إلى الاستعمار

 7-11-2013

عنوان نافر في نظر البعض من دون شك . لكن !

لا يظنن أحد أنه استنتاج ناجم عن يأس أو إحباط . ولا هو شيء مما عبر عنه المتنبي في قوله :

 كفى بد داء أن ترى الموت شافيا            وحسب المنايا أن يكن أمانيا

بل هو محصلة تمحيص وتدقيق وبحث ونقد ونقد ذاتي . ذلك أن سؤال النهضة ذاته الذي طرحه شكيب ارسلان ما زال يتكرر: لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون ؟ ولأن المقارنة بين ما كانت عليه بلادنا مع الاستقلال وما آلت إليه بعده ، بين حكم شكري القوتلي وحكم بشار الأسد ، بين الملكية في العراق وجمهورية المحاصصة أيام المالكي ، بين حزب الوفد المصري ومحمد مرسي ، بين أول المجالس النيابية اللبنانية المنتخبة بالاقتراع السري  وآخر مجلس منتخب بالاختيار المسبق، وممدّد له ، الخ ، هذه المقارنة تقول شيئا واحدا : القوى المحلية التي تنطحت للزعامة غير مؤهلة لقيادة بلدانها وإدخالها في حضارة العصر . أفلم يحن الوقت لننهض ؟

جاء الاستعمار ليوقظنا فشتمناه وفضلنا عليه سباتنا العميق. فضلنا التمسك بعهد السلطنة والعودة بالبلاد إلى الوراء ، إلى القبيلة والعشيرة والطائفة والبطون والأفخاذ وشرائع الغاب وعصر الولاية والإمارة والتشبيح والطفار ، بل إلى “ما قبل العقل العربي” (محمد عابد الجابري).  ألم يحن الوقت  لنخرج من مزاعم وأوهام دفعنا ثمنها غاليا من وحدة أوطاننا ورفاهية شعوبنا وتقدمها ؟

 أنظمة الحكم التي أورثنا إياها الاستعمار بنت دولا . جاءت الأصوليات فهدمتها وفككتها وأسست فيها لحروب أهلية مستديمة .

أنظمة الحكم تلك ، على علاتها ، كانت تحترم الاختلاف ، جاءت الأصوليات القومية والدينية واليسارية عن طريق الانقلابات فألغت كل احتمالات التنوع وقضت على الرأي الآخر بالقتل أو بالنفي أو بالسجن .

الدول السباقة إلى الدخول في النهضة والحداثة في عالمنا العربي هي تلك التي كانت سباقة إلى العلاقة مع الغرب الرأسمالي : مصر من أيام نابليون  ولبنان من أيام الارساليات.والدول التي استلحقت نفسها وبنت نهضتها الجديدة هي تلك التي عززت علاقتها بدول الغرب المتقدمة المسماة استعمارية ، والأمثلة كثيرة .

قارنوا بين قيادات الأمس وقيادات اليوم. لنقل، بين ما ورثناه وما صنعناه  بأيدينا. رحم الله الأوائل . مظاهرة صغيرة واحدة كانت كافية ليستقيل بشارة الخوري . بعد ستين عاما خرج الشعب اللبناني كله  إلى الشارع عام 2005 فما كان من قيادات آخر الزمن إلا أن وزعت ولاءاته على  القوى  الخارجية  بين عدو لسوريا ولسواها وصديق لها ولسواها ، وضاع الوطن ومعنى السيادة بين ساحتي الشهداء ورياض الصلح .

سر ضياع الأوطان يكمن في كونها بنيت على كره الأخر والحقد عليه ، قامت نكاية بالاستعمار ، لا من أجل سعادة المواطن ورفاهية المواطن وأمن المواطن ، وعلمه وصحته ، ولا للدخول إلى الحضارة من خلال الدولة الحديثة . خمسماية عام من الحكم التركي لبلاد العرب ، ولم تخطر فكرة الاستقلال على بال أحد. فجأة صارت مطلبا حين جاء الغرب الرأسمالي لينشلنا من تخلف دام أكثر من ألفية من الزمن . أقل من ثلاثين عاما من الانتداب الفرنسي ، وثلاثون عاما من الانتداب السوري على لبنان! الأول استعمرنا وبنى وطنا والثاني  استحمرنا و دمّره.

قال لي صديقي ، السبيل الوحيد لإخراج بلادنا من مآزقها يتمثل في عودة الاستعمار. فاجأني قوله في البداية مثلما يفاجئ قولي اليوم كثيرين. لكن مراجعة عابرة للتاريخ تؤكد أن للمرحلة القومية الغربية مأثرتين على الأقل: بناء الدولة الأمة وتنحية المؤسسات الدينية عن مركز القرار السياسي ، لكن من مآسيها ،  للأسف ، أنها تسببت بأكبر حربين عالميتين في تاريخ البشرية . أما في عالمنا العربي فقد خلت المرحلة القومية من أية مأثرة . ضاعت فلسطين وتفككت الأوطان واستنبت الحكام استبدادا أين منه نسخته في القرون الوسطى ، وخاض الحكام ضد شعوبهم أكثر الحروب ضراوة بتعاون كامل وشراكة مموهة مع المؤسسة الدينية .

الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الأولى في العالم التي خاضت حرب التحرر من الاستعمار الانكليزي وأعلنت وثيقة حقوق الانسان ( فعلت ذلك طبعا بعد القضاء على سكان البلاد الأصليين) . إسبانيا ، بلجيكا ، هولندا ، البرتغال هي التي دشنت، لا أميركا،  عهد التوسع الاستعماري في القرن السادس عشر ، ووظفت مغامرة كريستوف كولومبس لتغيير وجه العالم. مع ذلك، أميركا ، الأولى في مضمار التقدم الحالي ، هي عدو اليوم ، بينما الدول التي كانت رائدة التقدم في حينه ، والسباقة إلى افتتاح مرحلة الاستعمار كانت البارحة عدوا للسلطنة .  ليس عداء للاستعمار إذن ، بل عداء للتقدم . السلطنة قاومت التحديث في حينه حتى لا يطال بنية السلطة ونظام الحكم ، وأورثتنا مضمون هذا العداء ، بل  أن الحركة القومية واليسارية والدينية ، ومن غير مبالغة ، لم ترث منها غير ذلك .

الاستعمار فتح المدارس ونحن أغلقناها . الاستعمار مد سكة الحديد ونحن فككناها . شقت المرأة درب التحرر من مصر ولبنان وتونس ، فأعادتها الأصوليات الدينية إلى الحجاب والبرقع . استلمنا من الاستعمار أوطانا بدساتير وقوانين ، فجعلناها دويلات وإمارات وعلقنا الدساتير وانتهكنا القوانين، وأعلنا الأحكام العرفية وأنظمة الشريعة ، ولا شريعة ولا مشرعين .

يحق للجزائر ودول المغرب العربي أن تتحدث عن معاناتها ، لأنها ذهبت ضحية صراع دام على النفوذ بين تركيا والغرب الرأسمالي الصاعد ، في إطار حرب السيطرة على البحر الأبيض المتوسط ومحيطه ، لكن ذلك لا يفسر المواقف الراهنة من استعمار قديم ، بل يشي بجهل كامل للمتغيرات الجذرية التي شهدتها البشرية في مرحلة الحضارة الرأسمالية.

أنظمتنا الراهنة تحارب استعمارا لم يعد موجودا . تهرب إلى محاربته لإنها تخفي عجزها عن مواجهة الأسئلة الصعبة التي طرحتها الحضارة الحديثة :

  • هل جاء الاستعمار إلينا بحضارة  أم هو احتلال فحسب ؟
  • أليس كل احتلال استعمارا؟ سيطرة تركيا على العالم العربي قرونا خمسة هل هي احتلال واستعمار ؟ الاجتياح العربي لبلاد فارس قديما ، هل هو احتلال أم غزو أم فتح مبين ، وهل تمدد الدولة الأموية في شبه جزيرة إيبيريا والاندلس احتلال أم استعمار أم تبشير؟
  • ما معنى الوطن ، وهل كان للأوطان وجود قبل الاستعمار ؟
  • الاستعمار شكل تعبر فيه  الرأسمالية عن ميلها إلى التوسع الأفقي والعمودي (ماركس) . وهي لا تقوم بغير ذلك . فما موقف المناضلين ضد الاستعمار من كل المشروع الرأسمالي الذي يقدم نفسه للبشرية بعجره وبجره ؟

حين تتوصل أنظمة التخلف أو بدائلها الأصولية إلى صياغة أجوبة صحيحة على هذه الأسئلة نكون قد وضعنا قطار أوطاننا على سكة التقدم .

كفى متاجرة بالشعارات الطنانة الفارغة المحتوى . كفى حربا معلنة ضد الاستعمار مقرونة بطلب مضمر وملح سعيا إلى اللجوء إليها ورغبة بالحصول على جوازات سفرها.

 جذور مشاكلنا وأزماتنا راسخة في بنية تخلفنا المحلي ، وليست أنظمة الاستبداد القومي والديني واليساري إلا عينة من هذا التخلف ، ربما كانت الأبشع .