11-11-2013
كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانا (المتنبي)
القناة هي الجزء الخشبي من الرمح ، وهي لا تصير سلاحا قاتلا إلا حين يضع الانسان في رأسها قطعة معدنية هي السنان.
ينطبق قول المتنبي تماما على الشيعية السياسية التي تجعل من مناسبة عاشوراء قذيفة تضيف إليها في كل عام حشوة جديدة ، وتحولها عاما بعد عام من مناسبة للاحتفال بقيم سامية استشهد الإمام الحسين من أجلها إلى منصة تطلق منها القذائف الكلامية وكل صنوف التهديد والوعيد .
بدأت ممارسة الطقوس الحديثة لعاشوراء منذ أقل من قرن في بلاد جبل عامل ، وقيل إن النسخة الكربلائية الدموية أتت من إيران، ولم تكن بلاد جبل عامل تعرفها قبل ذلك ، أو أن هذه البلاد كانت تمارس طقوسا مختلفة تمجيدا للمناسبة وتخليدا لذكراها وكانت مدينة النبطية مسرحا لإحيائها ، ينافسها في ذلك مسرح آخر كان يقام في جباع الحلاوي ( منطقة النبطية أيضا) ، تمثل فيه المعركة في صورة حية بين نبع القبي والمرجة اللذين تصل بينهما طريق لا تتعدى خمساية متر، ويقوم بدور البطولة فيها فرسان يجوبون المسافة بين المنطقتين على ظهور الجياد .
كربلاء الأولى معركة استشهد فيها الحسين وصحبه في معركة غير متكافئة . كان يتم إحياء المناسبة بتمثيلية يقتل فيها البطل كما في أفلام السينما ، قتلا تخيليا ، وكان يرافق التمثيلية في مدينة النبطية وحدها دم رمزي يسيل من بعض الرؤوس الحليقة الشعر التي يتم تشطيبها لدى الطبيب ويضرب صاحبها بكفه على مكان التشطيب ، ثم يداوى الجرح المشطب بالعقاقير اللازمة . غير أن هذا الطقس الدموي صار يتحول ، عاما بعد عام ، لا سيما في العقود الثلاثة الأخيرة ، إلى ظاهرة واسعة الانتشار لا تقتصر على النبطية وحدها ، وتطورت أشكال العنف فاستخدم ضرب الصدور بالسلاسل ، تقليدا لطقوس تمارس في إيران كما في بلدان كثيرة وديانات كثيرة أخرى تجسيدا لعذابات الأئمة أو الانبياء وتعبيرا عن تضامن المؤمنين معهم .
طقوس العنف في كل الديانات تمارس في صورة رمزية ، وينفذها عدد محدود من الأشخاص ، غير أنها ، في عصر الشيعية السياسية دخلت في مزاد دموي مخالف للقيم والتعاليم الدينية ، ما حدا بالمرجعين الكبيرين ، الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله ، إلى إصدار فتوى لعامين متتاليين ، يحرمان فيها تلك الطقوس الدموية الكربلائية، ما يعني أن تلك الطقوس تتنافى مع التعاليم والقيم الدينية والمفاهيم الفقهية ، وأن تلك التعديلات الطارئة عليها ليست مستلهمة من النصوص بل من الظروف والقوى السياسية التي أملت على مناصريها عدم الاحتفال بعيد رأس السنة الهجرية مع الطائفة السنية وأرجأت عاشوراء إلى اليوم الثاني من شهر محرم ، كما سبق لها عدم التزامها بعيد البشارة الذي قررته الحكومة عيدا مشتركا للمسلمين والمسيحيين .
لم يكن التعديل الدموي هو الوحيد الذي طرأ على الطقوس الكربلائية . فقد تحولت عاشوراء من مناسبة سنوية إلى منبر يومي ، وباتت حتى في صيغتها اليومية غير كافية وحدها ، في نظر منظميها ، فأضافت الشيعية السياسية إليها مناسبة المجالس الفاطمية ( نسبة إلى فاطمة الزهراء لا إلى الفاطميين) ، وصارت مجالس العزاء فقرة في أي برنامج أو احتفال ديني أو سياسي أو اجتماعي ، وإن عزّت المناسبات الاحتفالية استحضرت ذكرى ميلاد أو ذكرى أربعين لأي واحد من الأئمة أو الصحابة أو القادة أو الشهداء أو الصالحين ، بحيث لا يخلو يوم من أيام السنة في القرى الشيعية من مجلس عزاء إما في النوادي الحسينية أو في أحد بيوت القرية ، وبحيث صار الاجتماع ” الحسيني” أو ” الفاطمي ” مناسبة لتلاوة سيرة الحسين على الطريقة ذاتها التي كانت تتلى فيها سيرة عنترة في بداية القرن الماضي ، بتكرار حرفي للنصوص النثرية والشعرية ، مع تلحين باللهجتين العراقية أو الإيرانية ونبرة مجبولة بالبكاء والنحيب .
لم تقف التعديلات عند هذا الحد بل أفرغت المناسبة من معانيها بما هي دعوة للثورة على الظلم ومناصرة المظلوم ، ودعوة لوحدة الكلمة سبيلا لوحدة المسلمين ولوحدة اللبنانيين ، ومنبر يتعاقب على الكلام فيه رجال من جميع الطوائف تجسيدا للوحدة الوطنية وتعبيرا عن أن الحسين هو شهيد كل المظلومين والمقهورين في كل الطوائف ، وشحنت بديلا عن كل ذلك بالتحريض المذهبي. حتى أن التعديل لم يقتصر على ذلك ، بل صار مجلس العزاء على السوية ذاتها مع قراءة سورة قرآنية ، وصار قارئ العزاء لا يكتفي بسرد السيرة الحسينية مع نبرة الحزن اللازمة ، ولا يقصر كلامه عليها ، بل يضمن كلامه عظة جرت العادة أن تكون من مهمات رجل الدين ، حتى بات للمجلس الحسيني أولوية على الطقوس الدينية الأخرى ، وبات لقارئ العزاء أولوية على رجل الدين وعظاته وشروحه الدينية .
إن لم تكن هذه التعديلات استجابة لضرورات و لحاجات دينية ولا تنفيذا لأحكام أو لاجتهادات فقهية، فهل تكون نتيجة منطقية لتاريخ من التنافس بلغ أحيانا حد الصراع الدموي بين طرفي الشيعية السياسية ، ولاسيما بعد أن تحولت المجالس إلى مادة للتنافس وصارت مناسبة للتحريض السياسي على الخصوم ، ومنبرا للشحن المذهبي والتعبئة العسكرية ، لا دفاعا عن الوطن ، بل تهديما للوحدة الوطنية وتخريبا للدولة الجامعة ؟
مقالات ذات صلة
حراك “أبو رخوصة” وحيتان المال
ثقافة الميليشيا
المال الحرام