23 أبريل، 2024

حمص وفيلسوفها

محمد علي مقلد                                                                         13-3-2015

قبل أن توجد الأمكنة الافتراضية، كان لنا مكان افتراضي، يمتد من حمص وينتهي بحدود الأممية التي تسلقنا دروبها ولم نصل. في هذا المكان الفلسفي التقينا في السبعينات من القرن الماضي بفيلسوف سوري من حمص، اسمه الطيب تيزيني. التقيناه يومذاك لنقرأ باكورة مشروعه الطويل الأمد في رؤية التراث. كان في الأربعين من عمره،حين تعرفنا عليه توأم حسين مروة في الفلسفة الماركسية، مثلما كان حزباهما توأمين من رحم سوفياتي واحد.

على بعد أربعين عاما أخرى التقيناه البارحة قادما من حمص، المدينة المنكوبة، فهو من مواليدها، ومصرّ على العيش في ما تبقى من منزله فيها.التقيناه في حفل تكريمه ، ولم يكن تكريمه الأول في  لبنان، سبق تكريمه في التسعينات من القرن الماضي في بيت الدين، وهذه المرة في أنطلياس. غاب عن تكريمه الأول توأمه اللبناني الذي اغتاله الاستبداد الأصولي الديني والسياسي، فيما تكريمه الثاني يتم والوطن العربي كله معرض للاغتيال على يد الاستبداد ذاته، والأصوليات ذاتها، القومية والدينية.

كنا نعرف أن الطرائف التي تروى عن مدينته لا تعبر عن حقيقة تلك المدينة العريقة في التاريخ. فهي معروفة بذكاء أهلها، ومنها طلع كثيرون من قادة الرأي والفكر والفن والسياسة في سوريا، والطيب واحد منهم. كرس النصف الأول من حياته للبحث في شؤون التراث والنصف الثاني للبحث في شؤون النهضة.

منعطف مشروعي الطيب ، التراث والنهضة، تزامن مع احتدام النقاش بين وجهتي نظر يسارية حيال حركات الاسلام السياسي. محمود أمين العالم القادم من مصر، حيث العنف الاصولي الوحشي ضد كل شيء، ضد  نجيب محفوظ وفرج فوده ونصر حامد أبو زيد، وضد السياحة وضد السادات وضد السينما وضد القانون وضد الكنائس وضد الحياة، كان على طرفي نقيض مع الطيب. اختار اليساريون المصريون أن يكونوا مع النظام ضد عنف الأصوليات الدينية، فيما ماركسيو المشرق العربي اختاروا التحالف مع الاسلاميين في النضال المسلح ضد العدو الصهيوني. الدينيون لا مكان في السياسة عندهم  لتحالف ولا لتعاون، لأن السياسة في نظرهم انصياع لما هو مرسوم في لوح السماء، وجبهة المواجهة في نظر الاسلاميين هي، بالأولوية، بين الإيمان والكفر، لا بين المادية والمثالية كما يرى الطيب .

اليسار المصري قرر التنحي وقدم دعمه للسلطة في مواجهة العنف الديني، فيما اختار اليسار المشرقي ومثقفوه ، ومنهم الطيب تيزيني صيغة أخرى للتنحي، فلم يعلنوا حل الحزب كما فعل المصريون، بل أعلنوا التحاقهم برفاق الخندق الواحد، ليجدوا أنفسهم، بحسب مشيئة النظام، تارة ضد الاسلاميين في الخندق المقابل وتارة معهم في الخندق ذاته.

إذن كان على فلاسفة اليسار أن يبحثوا عن تسوية. قالت التسوية إن الدين والماركسية مصدران متساويان لإيديولوجيات الثورة. وبدل نقد الدين، تحول الطيب وكل الطيبين من الماركسيين إلى نقد مواقفهم السابقة من الدين، ومضوا نحو فهم التجربة الإيمانية والدينية عموما من داخلها. ثم كانت تسوية أخرى في الفلسفة، بموجبها لا يلغي التمايز بين الفلسفة والدين ضرورة  احترام كل مجال منهما للآخر، بل صار الاحترام المتبادل والندية التنافسية والتسامح العميق في العلاقة بينهما هو الطريق إلى التلاقح المثمر.

في التسعينات كانت مؤسسة كونكورديا الفلسفية الألمانية الفرنسية قد اختارت الطيب تيزيني واحدا من مئة فيلسوف في العالم للقرن العشرين ، بينما كنا نحن نتعارك مع أصولياتنا ونحاول التبرؤ من جمود أصابنا ، وأوقعتنا الهزائم في إحباطات وأخرجت البعض من أنتمائه ورمته في أحضان الفكر الديني، بينما تمسك آخرون، ومنهم الطيب، بانتماء سياسي وفكري وحزبي دشنوا حياتهم النضالية به وما غادروه.

وفي تلك الفترة كان اليسار قد خسر اثنين من رموزه ، حسين مروه وحسن حمدان ( مهدي عامل)، قتلتهما أصوليتان، سياسية ودينية، والحزبان التوأمان في سوريا ولبنان، مصران على الانخراط في جبهة الاستبداد والتحالف مع أطرافها حتى ولو كانوا هم القتلة. لقد كان طبيعيا أن يتلاقى الأصوليون، شيوعيين وقوميين ودينيين، على البحث عن حل أزمات المجتمع في النصوص القديمة، نصوص السلف الصالح من جيل المؤمنين الأول بالأديان أو بالماركسية، كما كان طبيعيا أن يتشابهوا في السعي إلى إقصاء الآخر والاستئثار بالحقيقة والسلطة.

في هذا المناخ السياسي حصل  التكريم الأول للطيب، إذ كان يخيم شعور عارم من الحزن على غياب من غابوا، ومن الغضب على قيادات تصرعلى اعتبار القتلة حلفاء ورفاق نضال، ومن الخوف على الطيب وعلى كل الطيبين على امتداد الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، حتى لا يكونوا من ضحايا الاستبداد.

تكريمه الثاني البارحة في أنطلياس حصل في ظروف لا تقل قسوة. الطيب تيزيني المصمم على البقاء في مدينته حمص، رغم كل الدمار والعنف والوحشية والتدمير المنهجي، المصر على البحث عن تسويات وحلول وسط، أدانه النظام بتهمة التفكير بمستقبل سوريا. ولهذا نال نصيبه من الاعتقال.

يدفع الفكر دفع ثمن الاستبدادين الديني والسياسي ، لكن ثمنا أكبر تدفعه حمص مدينة الفيلسوف الطيب وكل المدن السورية، والثمن الأفدح هو الذي تدفعه أوطاننا وأمتنا من المحيط إلى الخليج.