19 أبريل، 2024

الزواج المدني لا ينجب إصلاحاً

محمد علي مقلد                                                                      6-3-2015

رأى البعض(منهم الصحافي علي الأمين) في تظاهرة الزواج المدني ” بذرة مشروع وطني”، وأنها قد تتحول إلى “رافعة مشروع وطني” و”ربما تكون الوحيدة في تاريخ التظاهرات اللبنانية التي تمثّل المجتمع اللبناني”، وأنها “غير مسبوقة في لبنانيتها الصافية…”

من موقع الداعم لمشروع الزواج المدني، ولإقراره في أسرع وقت، نذكر المتظاهرين دوماً بتجربة النضال الطويلة والمحبطة ضد آفة الطائفية المقيتة، ويستوقفنا السؤال عن أسباب الفشل الذي منيت به تحركات المجتمع المدني، بالرغم من صدق المنخرطين فيها وتفانيهم. أوليس من المبالغة القول أنها “غير مسبوقة”، خصوصاً أن شوارع بيروت شهدت تظاهرات أخرى مشابهة بتركيبتها الوطنية الشاملة وصدق تمثيلها للمجتمع اللبناني، وهويتها المصنوعة من انتماء وطني لا طائفي ولا مناطقي؟

 نذكر على الأقل التظاهرة المماثلة التي تكررت منذ سنوات ومشى فيها آلاف المتظاهرين في طقس ممطر وهم يحملون المظلات، والتظاهرات الحاشدة التي نظمتها هيئة التنسيق النقابية وحشدت فيها مواطنين لبنانيين لا يجمعهم سوى انتمائهم الوطني وقضاياهم المعيشية. النقص ليس إذن في عدد المطالبين ولا بصدق انتمائهم الوطني والعلماني، إنما النقص في مطالبهم، التي تشبه طلقة مطاطية توجع ولا تصيب مقتلا.

بلغت النضالات ذات الطابع العلماني ذروتها حين صارت جزءاً من برنامج كمال جنبلاط المرحلي للاصلاح السياسي. حتى في هذا البرنامج، الشعارات الموجهة ضد التشويهات الطائفية للنظام السياسي لم تصب هدفها، وسرعان ما لبثت أن تردت أوضاع بلادنا على هذا الصعيد وانحدرت من الطائفية إلى المذهبية.

شعار إلغاء الطائفية دخل متاهة النصوص والنفوس، ليخرج مهشما وتبقى الطائفية بكامل بشاعتها راسخة في صلب الحياة اليومية للنظام ومصانة بتعاون المستفيدين من بقائها. ذلك أن هذه الآفة موجودة في سلوك أهل الحكم أكثر مما هي في بنية النظام، ولذلك يبدو النضال العلماني المدني مصوباً في غير اتجاهه الصحيح، مستهدفاً الدستور والقوانين ، مع أنها تنص صراحة على الطابع العلماني للدولة، فيما يسرح ويمرح المتلاعبون بالمشاعر الطائفية على هواهم.

أما شعار الزواج المدني، فيصوب، هو الآخر، ضد جهة مجهولة. فالزواج في الدين الاسلامي هو زواج مدني، يعني أنه لا يحتاج إلى إقراره بمادة إضافية في قانون الأحوال الشخصية، ويصبح عقدا شرعيا بشهادة شاهدين اثنين، وهذا بإجماع أهل الاجتهاد. غير أن الآفة الفتاكة هنا تكمن في وجود مؤسسات غير معلنة لدولة دينية داخل الدولة المدنية، وهذه هي بالضبط الامتيازات المضمرة لرجال الدين، وهي حصتهم من نظام المحاصصة.

من الطبيعي أن يتحالف المتحاصصون من أهل النظام ، كل في مجاله، ويستثمروا التنوع اللبناني، ويوظفوه أسوأ توظيف، ويعملوا على دفع كل طائفة إلى الانكماش على نفسها واتخاذها وضعية المتحفز ضد طائفة أخرى، فيتحول التنوع إلى تشتت والتنافس إلى صراع والصراع إلى فتنة، بينما يمارس المتحاصصون ساديتهم ويتلذذون بتعذيب الضحية .

الطوائف ليس لها امتيازات. بل هناك من يغتصب السلطة تحت مزاعم الدفاع عن امتيازات الطوائف. إن جولة على ممتلكات ممثلي الطوائف، من سياسيين ودينيين، تكشف كيف تلتهم المحاصصة أجمل الشعارات وأصدقها، فينسق المتحاصصون جهودهم ويتكاتفون ويواجهون جمهور الطوائف بما يشبه الخديعة السينمائية، فيوهمونهم بأن الشعارات العلمانية التي ترفعها مؤسسات المجتمع المدني تشكل عدوانا على امتيازات(هم) ، فيما الامتيازات المزعومة تلك ذات ريع يعود حصرا إلى شلة معدودة من سياسيين ودينيين، وإلى دوائر من المستفيدين والانتهازيين تتسع من حولهم أو تضيق بحسب مكارم المحاصص الأكبر .

 نصيب المؤسسة الدينية من المحاصصة هو المحاكم الدينية ومكبرات الصوت والأوقاف والجبايات المالية والمحطات الاعلامية والمدارس الخاصة ، فضلا عن شراكتها في التعليم الرسمي. ونصيب السياسيين، وهو بدوره محصور بعدد قليل من أهل كل طائفة، يتحدد بالرئاسات ووظائف الفئة الأولى، ومالية الدولة وهيكلها الإداري كله من المدير العام حتى المياوم المتعاقد، وهي كلها لا تشكو من سوء التوزيع على الطوائف بل من سوء الاختيار، لأن انتخابهم أو تعيينهم، في ظل الطغمة الحاكمة اليوم، يعتمد، بدل الكفاءة وتكافؤ الفرص، معايير أخرى ليس أقلها ما ينتهك السيادة ويحيل قرار الاختيار لقيم الفساد ولأجهزة أمنية محلية أو لسفارات أو لمحاور أقليمية ودولية.

 حتى لو صدق القول أن للطوائف حقوقاً، فإن اختيار الأكثر كفاءة من الطوائف، على غرار ما كان يحصل في ظل مؤسسات الرقابة، من شأنه أن يشكل ضمانة لقيام حكم عادل وإدارة عادلة سقفهما القانون.

المحاصصون يتحصنون بالطوائف ويحمي بعضهم بعضا، وتنتهي الجولة، كما العادة، بحفلة زجل طائفي تجسدت ذات يوم بتصريحين مليئين بتبادل مفرط للياقات بين أحد صاحبي السماحة الذي أعلن أنه “لا يرضى إلا بما يرضى به المسيحيون” وصاحب الغبطة الذي “لا يقبل إلا بما يقبل به المسلمون”، فيما غرد صاحب السماحة الآخر في عزف منفرد عارضا الشهادة في مواجهة الزواج المدني.

الدولة هي الحل. دولة القانون والمؤسسات. دولة واحدة لا دويلات. ولا دولة داخل الدولة، ولا سلاح غير سلاح الدولة، ولا قانون غير قانون الدولة، ولا جبايات مالية خارج القانون الضريبي للدولة.

 المطالبة بإقرار الزواج المدني لا تكفي لتحقيق هذا الغرض، بل يحتاج الأمر إلى إلغاء الدولة الدينية التي تعيش في كنف الدولة اللبنانية. والبداية قرار جريء بانتزاع الدولة حقها في أن يكون لها ، بالأولوية، قانونها الاختياري للأحوال الشخصية، ثم قرار بإلغاء المحاكم الدينية وجعلها جزءاً من القضاء المدني، وإخضاع قضاتها لشروطه، بشهاداتهم الجامعية وتدريبهم في معهد القضاء. عندئذ لا فرق بين أن يكون الشاهد على الزواج شيخاً يعمل بآليات الدولة المدنية، أو كاتباً بالعدل أو قاضياً أو موظفاً في البلدية.