26 أبريل، 2024

خطاب الاستقلال الثاني

محمد علي مقلد                                                                       5-8-2013

خطاب الرئيس سليمان ليس الأول من نوعه ، بل هو تتويج لسلسلة من المواقف الجريئة هي الأولى بعد اتفاق الطائف  . كل ما سبقه من كلام رسمي على لسان الرؤساء والمسؤولين على المستويات كافة ، كان تأجيلا لتطبيق وثيقة الوفاق الوطني . ارتفع صوت الرئيس ليعلن بحزم دفاعه عن الدستور والقسم ، وعن السيادة الوطنية المعرضة للانتهاك من قوى خارجية وأخرى داخلية ، بعد وقوفه قبل فترة في وجه التدخل السوري السافر في الشأن اللبناني ، مع معرفته الأكيدة  بكونه  محاطا بغابة من الصواريخ وبأكداس من القصف الكلامي .

 المناسبة التي أطلق فيها تمنحه أهمية بفعل القيمة الرمزية لعيد الجيش ، والدور الكبير الذي يناط به لحماية السيادة الوطنية من أي عدوان خارجي أو داخلي عليها ، لكنها ، في الوقت ذاته، تقلل من قوته ، فالخطاب يفترض أن يكون قويا في حد بذاته من غير الحاجة  إلى مناسبة يستقوي بها ، خصوصا وأن مؤسسة الجيش ليست في منأى عن تأثيرات الفرز الطائفي والمذهبي ، وأن ولاء بعض ضباطه هو لزعماء الطوائف وقوى الأمر الواقع أكثر مما هو للوطن والدولة .وإن عدت تلك الحالات معزولة ومحصورة ومعدودة ولا تشكل السمة العامة للمؤسسة ، فإن الجيش اللبناني ، بالرمزية التي يمثلها ، وبرمزية الاحتفال في عيده السنوي يبقى الحصانة النظرية لكل خطاب استقلالي .وبذلك فإن الخطاب لا يستمد القوة من الجيش بل هو الذي يمنحه قوة الموقف ضد منتهكي السيادة .

 كان يمكن للخطاب أن يكون أكثر دلالة وقوة لو أنه قيل في مناسبة لتعزيز أحد أركان الدولة ومقوماتها لا أحد أجهزتها . ذلك أن “المؤسسة ” العسكرية على أهمية ما تمثله من حيز للانصهار والوحدة وتجاوز الانقسامات الطائفية والمذهبية ، فهي ليست سوى جهاز من أجهزة الدولة .

وإن صح القول إن تعزيز المؤسسات هو أول لبنة في إعادة بناء الدولة المرجوة ، فالمؤسسة الأولى التي ينتصر الخطاب لها ويعيد لها هيبتها هي مؤسسة رئاسة الجمهورية ، بعد عقدين من السنوات أفرغت فيها من مضمونها وانتقصت صلاحياتها ، لا بما انتزعه منها دستور الطائف فحسب ، بل قبل ذلك بالتدمير الذي لحق بها وبسائر المؤسسات في ظل حكم الوصاية، الذي جعلها، على السوية ذاتها، واحدة من ثلاث رئاسات تشكلت منها الترويكا ، تلك البدعة التي أطاحت بمبدأ الفصل بين السلطات حين ذوبتها  في واحدة  وحيدة هي سلطة النظام الأمني .

إن كان هذا الخطاب الرئاسي صرخة في وجه نظام الوصاية البائد ، فالوطن يحتاج إلى استكماله بخطاب آخر ، بصرخة أخرى ، في وجه من ينتهكون السيادة الوطنية من الداخل ويتقنون فن اختلاس صلاحيات الرئاسة ، والنيل من هيبتها والتطاول على مقامها ، ومقاسمتها استقبال الوفود الأجنبية والحلول محلها في رعاية و تدشين المشاريع التنموية .

صرخة أخرى في وجه من عملوا على  تخريب مؤسسات الدولة ، وأمعنوا في تعطيل  دور المجلس النيابي ووضعوا ، ويضعون ، العصي في دواليب تشكيل الحكومة ، دفعا للبلاد إلى فراغ سياسي لا يعود معها الجيش ،أيا تكن قوته العسكرية ، قادرا على حماية الدولة من الانهيار . بل يمكن القول ، في المقابل ، إن خير ضمانة لقوة الجيش تتمثل في وجود الدولة وبقائها ، لأن ألويته تتوزع ، في ظل غيابها ، على الطوائف والمذاهب ، وهذا ما تعرض له الجيش في بداية الحرب الأهلية ، وتحول بعد اتفاق الطائف ، كما كل أجهزة الدولة ، إلى مادة للمحاصصة بين ممثلي الطوائف وقوى الأمر الواقع  ،على أن أخطر ما يتعرض له اليوم هو تلك  الضغوط  المتعددة الأشكال ، التي تهدد وحدته وتضعه أمام خطر الفرز الذي تشتهيه وتعمل له قوى لا مصلحة لها بإعادة بناء الوطن والدولة .

صرخة أخرى ينبغي أن تنطلق من الرئاستين الثانية والثالثة ، لطي صفحة الترويكا ، وإعادة الاعتبار إلى مبدأ الفصل بين السلطات . صرخة واحدة من كل الرئاسات من أجل إعادة الهيبة للسلطة القضائية التي يفترض فيها أن تكون رمزا لحماية القانون وضمانة للعدل ، والتي سبق لنظام الوصاية أن دشن العدوان عليها وأفقدها هيبتها ، ثم تولى نظام المحاصصة الميليشيوي استكمال المهمة بتدخل سافر في شؤونها أدى إلى إلغاء استقلاليتها واستبدال قيم الكفاءة والنزاهة ونظافة الكف فيها بقيم الزبائنية والمحسوبية ، وصار انتهاك القانون هو القاعدة ، والولاء للزعيم هو البديل عن الولاء للوطن والدولة والقانون.