25 أبريل، 2024

السياسة تشوه الابداع يا زياد

 محمد علي مقلد                                                                   30-12-2013

يذكر اللبنانيون والعرب حلقة “حوار العمر” التي أجرتها الصحافية جيزال خوري مع الفنان زياد الرحباني منذ سنوات على شاشة إل بي سي . كعادته ، كان مثيراً للجدل ، لكنه جدل مختلف عن الذي أثارته زوبعة مقابلته الأخيرة. كأن الجدل في الأولى هو الذي طالب إدارة المحطة بإعداد حلقة ثانية معه ، وكأن الجدل في المقابلة الأخيرة يطالبه بالصمت والاعتذار.

كلام كثير قيل في فنه وإبداعه في المسرح والموسيقى ، وفي فيروز وصوتها الملائكي وفنها مع الرحابنة وغنائها للبنان . وكلام كثير قيل عن حزب الله وسوريا . كلام كثير في الفن ومثله في السياسة ملأ صفحات التواصل والشاشات والإذاعات وكل وسائل الاعلام ما جعل الموضوع يشبع جدلا . لكن كل الذي قيل لا يعدو كونه تعبيرا عن الانقسام السياسي الراهن في لبنان بين 8 و14 آذار، وعن الاجماع على صوت فيروز وفن الرحابنة الأخوين والذرية كلها .

سمع زياد كلاما كثيرا عن الفن كما عن السياسة من غير الربط بينهما ، أو مع الربط مغلوطا . وهذا من طبيعة الأمور حين تطمس السياسة ما عداها من مجالات النشاط البشري . لكن وقفة متأنية وهادئة مع تفكير ملي تجعلنا نرى أن السياسة تفسد الفن إذا لم يكن مستقلا عنها وعن مشاكلها وصراعاتها وانقساماتها ، حتى لو تمحورت الانقسامات على إيديولوجيات وقضايا كبرى ، وليس فقط على المصالح والحسابات اليومية والمكاسب الفئوية. وأنها ( السياسة ) لا تفيد الفن ولا تشكل له رافعة وملهما إلا حين يكون الفن مدافعا عن قضايا التقدم والثورة والتغيير، وبصورة خاصة عن قضيتي الحرية والوطن .

 ربما بسبب ذلك ارتبطت أسماء كبار الفنانين والشعراء والروائيين والمسرحيين والموسيقيين والسينمائيين والنحاتين ،الخ …،  طيلة القرن الماضي ، بالنظرية الماركسية وبعملية التغيير الثوري في العالم اعتقادا منهم أنها تتويج لكل فلسفات التغيير الداعية إلى تحرير الإنسان من الاستغلال، كما أن كثيرين منهم انخرطوا في الأحزاب الاشتراكية والشيوعية ، اعتقادا منهم أنها الأطر الفاعلة في عملية التغيير نحو الأفضل . من نجح منهم في إبقاء الفن على مسافة من العمل السياسي المباشر أنتج فنا خالدا ، أما الذين حصروا نتاجهم بالترويج لإفكار الحزب الذي انتموا إليه أو إلى إيديولوجيته فذهب نتاجهم  بذهاب من دافعوا عنه ، ولم يحسب نتاجهم إلا مع الفن المبتذل.

في تاريخ الفن نماذج من الصنفين . من بينها سعيد عقل في لبنان ، وفيكتور هوغو في فرنسا. شاعران كبيران لا يشك أحد في موهبة كل منهما. الأول غنى للحرية وللقيم السامية ، للجمال  وللوطن ، والثاني غنى للحرية وللطبيعة بما هي أفضل ساحة لتحرر الفرد من كل سلطة . لحظة واحدة في حياة سعيد عقل أبعدته عن الأجماع حين انخرط في العمل السياسي اليومي . كان يعتقد حينذاك أنه يدافع عن الوطن وسيادته وحريته ، لكنه انزلق إلى موقع المدافع عن التطرف ، ولم ينتبه إلى أن التطرف لا يقبل الآخر ولهذا فهو عدو الحرية . مع ذلك ، لم يستطع سعيد عقل أن يكتب قصيدة واحدة في الدفاع عن فكرته السياسية . فالكلام المعادي للحرية لا يمكن أن تقوله لغة الشعر .

فيكتور هوغو عاش في عصر نابليون ، ذروة الثورة الفرنسية . ومع أن نابليون وطد دعائم دولة القانون وعممها على كل أوروبا ، وبزعامة عالمية لا تنازع وضع فرنسا في طليعة عملية التغيير الجذري في أوروبا ، تمهيدا لتغيير كوني قوامه دولة القانون وتعميم الرأسمالية ، غير أن الشاعر ظل مع القضية ضد صاحب السلطة ، فلم يسقط فنه ضحية موقف ملتبس من القضية .

في مقابلتي زياد رحباني في “حوار العمر” ، كان زياد لا يزال يدافع عن قضية الحرية ، حرية الوطن الرازحة أرضه تحت الاحتلال الاسرائيلي ، والرازح نظامه تحت سلطة الوصاية السورية .  حرية الوطن تتوافق مع التغني بالمقاومة ضد الاحتلال مثلما أن حلقات النقد القاسي لنظام الوصاية السوري” بعدنا طيبين قول الله”  كانت في صميم الدفاع عن الوطن والنظام الديمقراطي.

في مقابلاته وكتاباته الأخيرة يوظف زياد رصيده الفني في خدمة الانقسام السياسي لا في خدمة القضية، ربما لأنه لم ينتبه إلى أن القضية شيء وأطراف الصراع على القضية شيء آخر . في عرف الأحزاب الشمولية وحدها ، أي غير الديمقراطية ، تتماهى القضية بالحزب ، بل بالقيادة ، بل بالقائد الفرد .ولم يبدل انهيار الشيوعية ، في ذهن زياد ، تلك الصورة التي تطابقت فيها القيم الجميلة مع العنف الأعمى الذي مارسته القيادة وعبادة الفرد على خصومها وعلى حلفائها .

القيم السامية ما زالت سامية يا زياد. لكن نقد القيادة والسياسة يحتاج إلى شجاعة . والشجاعة في السياسة غيرها في الفن ، لكل لغته ولكل أدواته ، والفن هو الأصعب لأنه يحتاج إلى موهبة فضلا عن الشجاعة ، فلا تضيع موهبتك ومحبيك في كلام السياسيين الساقط ، وعد إلى فنك ومحرابك ومملكتك  . من يملك شجاعة نقد اليسار واليمين في نزل السرور وبالنسبة لبكره شو وفيلم أميركي طويل وشي فاشل ، يملك مفتاح كل نقد بناء دفاعا عن الحرية ، حرية الأفراد وحرية الأوطان.