18 أبريل، 2024

المسيحيون والشيعة والربيع العربي

 20-12-2013

منشورة تحت عنوان المسيحيون والربيع العربي

علاقة الشيعة اللبنانيين بالمسيحيين اللبنانيين ، كما بين الطوائف كلها ، لها قصة وتاريخ وشجرة نسب . هي بنت النظام السياسي ، تتحول بتحولاته وتتبدل بتبدلاته  . لذلك هي ليست ثابتة في التاريخ ولا تخضع لاعتبارات دينية أو فلسفية بقدر خضوعها لاعتبارات سياسية . من هنا يصح القول إن  المجموعات البشرية التي عاشت على هذه البقعة الجغرافية التي صار إسمها لبنان، اجتمعت، في فترة قصيرة من الزمن ، تحت سقف  المواطنة ، فشكلت شعبا وأسست وطنا ، لكنها عاشت، في معظم الفترات الأخرى من التاريخ، تحت سقوف أخرى  .

سقف المواطنة هو الممتد من إعلان لبنان الكبير حتى انفجار الحرب الأهلية (1920-1975)، أما السقوف الأخرى فهي التي سبقت هذه الفترة أو تلتها ويمكن تقسيمها إلى أربع مراحل،  الأولى سبقت تأسيس لبنان كوطن ، واستمرت خلال الحكم التركي ،  حيث الحاكم راع والساكنون في ربوع الولايات رعايا ، في ظل السلطنة ونظام الملل العثماني وقبله أيام الخلافة.الثانية الممتدة من 1920 ، تاريخ إعلان لبنان الكبير ، حتى انفجار الحرب الأهلية عام 1975، التي تساوى فيها اللبنانيون ، كمواطنين ، تحت سقف القانون. الثالثة الممتدة من بداية الحرب الأهلية  حتى اغتيال الحريري ، والتي تراجعت فيها سيادة الدولة ، وحلت محلها بالتناوب أو بالتعاون سلطة الوصاية السورية والميليشيات المحلية والاحتلال الاسرائيلي. أما المرحلة الأخيرة الراهنة فهي المستمرة منذ محاولة اغتيال مروان حمادة.

ناظم العلاقات بين مواطنين لا بين طوائف ، هو إذن دولة القانون التي نشأت في رحم الحضارة الرأسمالية، نطفة في أواخر القرن الخامس عشر ، مع اكتشاف أميركا ؛ ثم جنيناً تكونت ملامحه في غمرة صراع حاد مع الحضارة الإقطاعية ورموزها الاقتصادية والفكرية والدينية والسياسية ؛ ثم مولودا طفلا اكتملت ملامحه بالثورة الفرنسية وقيام الجمهورية ، ولم يبلغ سن الرشد إلا بعد حربين عالميتين ، نهضت منهما الديمقراطية خيارا وحيدا ممكنا لاستمرار هذه الحضارة ولتطورها.

علاقات اللبنانيين فيما بينهم تشبه تلك التي كانت قائمة بين شعوب أوروبا وجماعاتها ، وهي بنت هذا التاريخ الممتد في الصراع بين الحضارة الاقطاعية ونظام الملل العثماني من جهة ، والحضارة الرأسمالية الوافدة إلينا من الغرب الأوروبي من جهة أخرى. وهي خضعت لمجريات هذا الصراع الذي لم يكن نسخة طبق الأصل عن أصله الأوروبي. والأمر اللافت للنظر هو أن تأسيس السلطنة العثمانية بعد سقوط القسطنطينية (1452)، عند منتصف القرن الخامس ،عشر قد ترافق مع نشوء الحضارة الرأسمالية في أوروبا في أواخر ذلك القرن( 1492) .

حين صار لبنان وطنا وأسست الدولة مدارسها الرسمية ،كان المعلمون الأوائل في مدارس القرى الشيعية مسيحيين قادمين من خلف نهر الأولي ، من محافظتي جبل لبنان والشمال ، من الذين تيسر لهم  أن يتواصلوا ، قبل سواهم ، مع الحضارة الرأسمالية من خلال الارساليات. ولم يعد خافيا أن النهضة دخلت إلى العالم العربي من هذا الطريق ، ولاسيما من البوابة اللبنانية ومن طريق نابليون حين احتل جيشه مصر عام 1798 .

ربما صار ضروريا إذن التأكيد على حقيقتين متلازمتين في هذا  الشأن. الأولى هي أن دولة النموذج الرأسمالي نشأت في بلادنا بفضل الغرب، الذي لم تثمرضغوطه على دولة الباب العالي ، بينما هي أثمرت ، بعد انهيار السلطنة ، في ولايات متحدرة منها، من بينها لبنان . بهذا المعنى آن لنا أن نقر بدور إيجابي لسايكس بيكون وسان ريمو في إعلان لبنان الكبير ، عام 1920،  الذي اتاح للشيعة مشاركة المسيحيين والسنة والدروز في تشكيل الركن الأول من أركان السيادة : الشعب ، الشعب اللبناني. قبل ذلك ، لا المسيحيون ولا الشيعة ولا سواهم من الرعايا عرفوا معنى أن يكونوا شعبا . الشعب  ركن من الثالوث المقدس في بناء الدولة إلى جانب الأرض والسيادة . ومن سوء حظ هذا الثالوث أن الشيعية السياسية شوهته واستبدلته بثالوث آخر ، ثالوث بدعة : شعب وجيش ومقاومة … تخيلوا ، مع هذا الثالوث، أين يصير الوطن ؟

الحقيقة الثانية هي أن صفحة الحروب الدينية في أوروبا لم تقلب إلا مع  قيام دولة القانون ، أو دولة الحق الهيغلية التي بدلت الحكم الوراثي بتداول السلطة  وانتخابها بالاقتراع الحر ، و بنائها على أساس الفصل القاطع بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة والقانون الوضعي ، وما كان ذلك ليحصل لولا تخلي رجال الدين قسرا، تحت ضغط نابليون، عن دورهم السياسي والعودة إلى كنائسهم والاهتمام حصرا بشؤون اللاهوت والناسوت.

غير أن الغرب ظل يتعامل مع الشعب اللبناني ، ومع شعوب كثيرة أخرى ، كجماعات منتظمة في طوائف ومذاهب. ربما جاءت نظرية هنتنغتون عن صراع الحضارات تعبيرا عن هذه النظرة إلى الدول والشعوب التي تقع خارج دائرة الحلف الأطلسي،بل  تتويجا لها،وتجسيدا للمركزية الأوروبية. هذا ما بينته السياسة الأميركية التي عملت على تحرير كل من العراق وأفغانستان من الاستبداد، وهو بالضبط  ما فعلته أوروبا حين بنت الدولة في لبنان ووزعتها بالمحاصصة على قوى متحدرة من النظام القديم ، ورسمت خارطة طريق لأي تغيير محتمل  قوامه انتخابات  ووراثة في آن واحد.

ما إن ولدت دولة الحداثة في لبنان ( وهي حداثة نسبية طبعا) ، وفي بلدان أخرى من العالم العربي أيضا ، حتى هبت إلى محاربتها الأصوليات على أنواعها،  القومية ، بحجة كونها( دولة الحداثة) وليدة الاستعمار ، واليسارية ، بحجة كونها صناعة امبريالية ، والدينية ، بحجة كونها نتاجاً مسيحياً غربياً . لذلك لم يكن غريبا أن تنهض في صفوف السنة والشيعة مشاعر مركبة من أفكار يسارية وقومية ودينية ضد الدول الناشئة في أعقاب الاستقلال ، ما ولد في نفوس المسيحيين  شعورا بأن هذه الدولة دولتهم قبل سواهم وأن الدفاع عنها من مسؤوليتهم قبل سواهم ، ما جعله يبدو بمثابة دفاع عن امتيازات داخل السلطة كان يحظى بها ذوو النفوذ من المسيحيين وحلفائهم من المسلمين ، ودفع البلاد نحو الانقسام الشهير في بداية السبعينيات ، الحلف والنهج ، ثم الجبهة اللبنانية والحركة الوطنية .

بدا الشيعة في ظل هذا المناخ السياسي متمردين على سلطة متهمة بالانحياز لصالح ” طغمة مالية ” تهيمن عليها البرجوازية المسيحية. تجلى ذلك بالتزام عشرات الآلاف من الشباب الشيعي في صفوف الأحزاب اليسارية والقومية وفي صفوف الثورة الفلسطينية ، فتحصنوا في هذا التحالف وخاضوا صراعا ضد الخصم المسيحي ممثلا بالجبهة اللبنانية ثم بالقوات اللبنانية في المرحلة الثانية من الحرب الأهلية .

مع ذلك ظل الصراع منضبطا على إيقاع  يسار علماني منتشر في كل المناطق و الطوائف ، ومتناغما مع فكرة الانتماء إلى وطن،وهي فكرة تعززت في المرحلة الشهابية ، لكن الحرب الأهلية سرعان ما زعزعت أسسها مع احتفاظ مناطق الاختلاط الريفي بعلاقات طبيعية بين الشيعية والمسيحيين ، ما خلا بعض مناطق الجنوب التي أنشأت إسرائيل فيها جيباً على طول حدودها ووظفته لتسعير المشاعر الطائفية .

قبل انفجار الحرب لم يكن يوجد أي اختلاط اسلامي في الريف اللبناني ، فما من قرية لبنانية عاش فيها معاً سنة وشيعة ،أو شيعة ودروز. والمسيحيون هم الذين شكلوا الخيط الجامع بين الطوائف اللبنانية من شمال لبنان إلى جنوبه ، إذ كانوا يعيشون في قرى مع الشيعة وفي أخرى مع الدروز وفي ثالثة مع السنة .

ضابطا الإيقاع في الصراع ( العلمانية والوحدة الوطنية ) تعرضا للتصدع بتدخل القوى الخارجية ، الفلسطينية والسورية والاسرائيلية .النظام السوري كان الأكثر قدرة ، بين سائر القوى الخارجية ، على تصديع مقومات الوحدة الوطنية ، لأنه كان يملك مشروعا لتعميم نموذجه الاستبدادي في الحكم. ابتدأ بتدمير مؤسسات الدولة وألغاء أسس الديمقراطية في النظام اللبناني ، ثم ألغى مبدأ الفصل بين السلطات مع بدعة الترويكا ، وأفرغ الانتخابات من مضمونها بتسمية المرشحين وتعيينهم  ، وفرض آليات قهرية للفساد والافساد ،واستخدم كل صنوف العنف لإلغاء خصومه الخ ، مستندا في كل ذلك إلى سياسة فرق تسد وإلى تطويع من يعصون أوامره ،ومعتمدا على قوى محلية لم يبخل عليها بكل المساعدات المادية والمعنوية ، وعلى رأس تلك القوى الثنائي الشيعي حزب الله وحركة أمل .

أثمرت تلك السياسة ، إضافة إلى عوامل أخرى كثيرة ، فأستكملت مشاريع التدمير الطائفي بمشروع الشيعية السياسية الذي بلغ ذروته ، بعد أن ورط نفسه والشيعة عموما ،  في خصومة مع كل اللبنانيين، معتمدا على فيض المساعدات والاحتضان الخارجي ، مكررا تجربة  مشروع المارونية السياسية،  وكذلك مشروع السنية السياسية الذي تبناه ودافع عنه اليسار القومي والتقدمي، اللذين انتهيا إلى تدمير الوطن والدولة ، وتدمير الميسحيين وأحزاب اليسار. فهل تنتظر الشيعية السياسية مصيرا مختلفا؟؟

يسمح لنا هذا العرض باستخلاص دروس من المغامرات الطائفية  :

 الأول هو أن المساعدات التي تقدمها القوى الخارجية للطوائف ، أو التي تطلبها الطوائف من القوى الخارجية ، أيا يكن نوعها، ليس فقط لا تفيد الطوائف، بل هي التي ستكون سببا في  تدميرها  وتدمير الوحدة الوطنية معها، إذ ما من طرف تلقى من الاحتضان الأجنبي وطالب بالاحتضان الاجنبي والاقليمي ، العربي ثم الاسرائيلي،  أكثر مما تلقاه وطالب به مشروع المارونية السياسية الذي ادعى الدفاع عن مصالح المسيحيين. مع ذلك  ، يتم البحث اليوم عن سبيل لحماية المسيحيين بل لمنع استئصالهم من المشرق العربي. الأمر ذاته يصح على القوى اليسارية والقومية التي طالبت بالدعم من الأقربين والأبعدين فاقتتلت بالسلاح ذاته الذي حصلت عليه ثم تفرقت وتشتتت ودمرت نفسها  ، كما يصح على القوى الاسلامية وسائر القوى الأصولية والسلفية التي تدمر ، حيث وصلت إلى السلطة، كل مظاهر التقدم  والحضارة والتاريخ .

المساعدة الوحيدة الراهنة التي يمكن تقديمها أو طلبها هي دعم ثورات الربيع العربي ضد أنظمة الاستبداد الوراثية ، الجمهورية أو الملكية ، وتشجيع اللبنانيين على الشروع بربيعهم ، من أجل قيام دولة المواطنة وحقوق الانسان . دولة المؤسسات التي يتساوى فيها المواطنون تحت سقف القانون ويمارسون فيها إيمانهم ، كل على طريقته ، بحماية القانون.إذ من المؤكد أن دعم الثورة السورية ضد استبداد الأصوليات  لن يعود بالفائدة على طائفة لبنانية بعينها بل على كل طوائفه ومذاهبه وعلى الوطن والدولة ، ولن يحمي المسيحيين وحدهم في سوريا ولبنان بل سيحمي المسلمين أيضا من عدو مشترك هو نظام الاستبداد .

الدرس الثاني هو أن حماية الأقليات ، ( الشعب اللبناني مؤلف من مجموعة أقليات )لا تتم بسعي كل أقلية للحصول على حماية نفسها ، بل بانصهار كل الأقليات تحت سقف القانون الذي تجسده دولة المؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص ، دولة السيادة الوطنية ، دولة الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان والتداول السلمي للسلطة ، الخ. ولا سيما أن الأصوليات السلفية والتكفيرية لا تشكل خطرا على مصير المسيحيين ، فحسب ، بل على تيارات الاعتدال في كل الطوائف .

دولة القانون والحق هي أفضل سبيل لحماية الأقليات ،وهي التي تتولى حماية حريات المواطنين في الإيمان وممارسة الطقوس وتحصين المجتمع وتشجيعه على احترام العادات والتقاليد والقيم الثقافية والأخلاقية التي نتعلمها من بيئاتنا الدينية . في مقابل ذلك ينبغي  أن تشطب من القاموس السياسي     ( السياسي فحسب) ومن الممارسة السياسية ( السياسية فحسب) كل المصطلحات المتعلقة بالأديان والطوائف والمذاهب ، يعني أن تكون الكنائس والمساجد والعباءات والعمائم والقلنسوات رموزا للتقوى والعبادة ، وأن يترك للقانون وحده أن ينظم العلاقة بين المواطنين.

مداخلة ألقيت في ندوة معراب بتاريخ 20-12-2013